بقلم مبشرة تزمل
لم تمضِ أيام قليلة على اليوم العالمي للحجاب في الأول من فبراير، حتى شن سياسيون كنديون في مقاطعة كيبيك، أكبر مقاطعات كندا الشرقية، هجوماً على المبعوثة الخاصة التي عينتها الحكومة مؤخراً لمكافحة الإسلاموفوبيا في المقاطعة، أميرة الغوابي المسلمة المحجبة.
طالبت تلك الأصوات رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بعزل الغوابي من منصبها، بعد اتهامها بحمل “مشاعر معادية لكيبيك” على حد وصفهم، استناداً إلى مقالة كانت قد كتبتها الغوابي عام 2019 جاء فيها “لاحظت أن الإحصائيات تظهر أن العديد من سكان كيبيك لديهم آراء معادية تجاه المسلمين”، ويبدو أن جرأتها في الطرح كانت كافية للمطالبة بعزلها في منصب تسلمته حديثاً!
لدى السياسيين من التيار اليميني في كيبيك تاريخ من الانطباعات السلبية تجاه المسلمين والحجاب
لابد من الاعتراف بالحقيقة، كان لابد من جرأة مثل ما فعلت الغوابي في مقاطعة تعاني من الإسلاموفوبيا، أما بالنسبة لهؤلاء السياسيين، فمشاعر أنصارهم من سكان المقاطعة أهم من حياة المسلمين وسلامتهم.
يمكن النظر إلى الأمر وتحليله من عدة زوايا، أولها مواصفات الغوابي التي تتمثل بكونها امرأة مسلمة ومحجبة، وهنا نتذكر أن لدى السياسيين من التيار اليميني في كيبيك تاريخ من الانطباعات السلبية تجاه المسلمين والحجاب، كما تتمتع الغوابي كذلك بسجل حافل في كناشطة في التوثيق والتحليل في ظاهرة انتشار الإسلاموفوبيا في كندا، خاصة في كيبيك، التي يعد تاريخها العنصري مقلقاً ضد المسلمين وتجلى في جرائم مختلفة.
من زاوية أخرى، لقد لعب السياسيون دوراً مركزياً في خلق البيئة المشجعة على الكراهية ضد المسلمين عبر استخدام شماعة الإسلاموفوبيا لتعزيز أصواتهم الانتخابية وتمرير تشريعات فاسدة ومضرة، مما أدى إلى انقسام المسلمين في المنطقة بل ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية في مواطن عديدة، ولذلك يعتبر تعيين الغوابي حصاد جهد ملموس من طرف الحكومة للتصدي للكراهية والتدقيق ومحاسبة من له دور في تأجيجها، الأمر الذي يدركه هؤلاء السياسيون العنصريون.
استهداف النساء
في شهر يونيو عام 2019، أقرت كيبيك مشروع قانون يحمل رقم (21)، قانون يهدف إلى دعم القيم “العلمانية في المقاطعة، ووجد فيه اليمينيون مبرراً لتمييزهم الصارخ ضد المسلمين، حيث يحظر القانون المذكور على الأفراد الذين يعملون في وظائف عامة مثل المعلمين والمحامين الحكوميين وضباط الشرطة وموظفي الخدمة المدنية للآخرين، من ارتداء رموز دينية إلى العمل، على الورق، قد يبدو ذلك تعبيراً عن “الحياد الديني”، ولكنه في الواقع لم يستهدف إلا النساء المحجبات في المقاطعة.
في نوفمبر 2022، صرح محامون يتحدون القانون بأنه ” يعزز التمييز بأغلبية ساحقة ضد النساء المسلمات”، فقد قامت المحامية التي تمثل مجلس مدرسة مونتريال الإنجليزية، بيري رافون، بإبلاغ القاضي بأنها “لم تجد أمثلة لأشخاص فقدوا وظائفهم بسبب هذا القانون فيما عدا 8 نساء محجبات” في تمييز هيكلي واضح.
وقد عانى المسلمون في كيبيك أيضاً من مستويات مروعة من العنف الناجم عن الإسلاموفوبيا في السنوات الأخيرة، ففي 29 يناير 2017، قام مواطن كندي أبيض بفتح النار على 53 مسلماً خلال صلاتهم في مسجد في مدينة كيبيك، مما أدى إلى مقتل 6 وإصابة 17 آخرين، فيما صرح المسلح الذي قام بالعمل الإرهابي للشرطة لاحقاً بأنه كان “متحمساً لتنفيذ الهجوم”، وذلك رداً على رسالة ترودو التي رحب فيها باللاجئين بعد إعلان الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب حظر دخول المسلمين.
وهنا نتوقف عند ملحوظة أخرى مهمة، وهي أن ازدراء السياسيين في التيار اليميني للمهاجرين واللاجئين يوازي ازدراءهم للمسلمين، فبالإضافة إلى تصريح رئيس وزراء الإقليم، فرانسوا ليغولت، الذي ادعى أن دعوة أكثر من 50 ألف وافد جديد إلى المقاطعة “سيكون انتحارياً”، تخيل أنه ما زال عدد من هؤلاء يحتفلون بذكرى إطلاق النار في المسجد!
قناعة سائدة
نظرية المؤامرة التي تتمحور حول “الإبادة الجماعية للبيض” هي العنوان العريض للخطاب والقناعة التي تسود بين أفراد التيار اليميني في كيبيك، والتي تعد مسوغاً لتبرير قتل المسلمين، ولكن المثير للصدمة أن ثلث سكان المقاطعة يشاركون رئيس الوزراء مشاعره، فقد أظهر استطلاع لراديو كندا عام 2017 أن 32% من سكان كيبيك يفضلون حظر هجرة المسلمين إلى كندا، وفي استطلاع أجرته مؤسسة “فورم ريسيرش” عام 2016، وجد أن “أكثر المشاعر السلبية تجاه المسلمين وجدت بين الكنديين من مقاطعة كيبيك بنسبة بلغت 28% وبين المحافظين تحديداً بنسبة 40%”.
يعد قيام النخب الحاكمة بملاحقة امرأة مسلمة محجبة أمضت سنوات في البحث والكتابة ولفت الانتباه إلى وباء الإسلاموفوبيا ليس صادماً فحسب، وإنما مقلقاً أيضاً
من جانب آخر، تظهر إحصائيات جرائم الكراهية ضد المسلمين في المقاطعة خطورة الوضع، فتعرض الغوابي للهجوم ليس لمجرد تعبيرها الصريح عما هو واضح أصلاً من معاداة المسلمين في كيبيك، ففي الفترة بين 2016-2021، عانت كندا من “عمليات القتل الجماعي بدافع الإسلاموفوبيا” أكثر من أي دولة أخرى في مجموعة الدول الصناعية السبعة، فقد أشارت دراسات وتقارير بالأدلة الموثقة إلى صعود وانتشار القومية البيضاء التي تستهدف المهاجرين الملونين بشكل أساسي في جميع أنحاء البلاد.
في هذا السياق، يعد قيام النخب الحاكمة بملاحقة امرأة مسلمة محجبة أمضت سنوات في البحث والكتابة ولفت الانتباه إلى وباء الإسلاموفوبيا ليس صادماً فحسب، وإنما مقلقاً أيضاً، فهذا الغضب المصطنع لا يهدف إلى شيطنة الغوابي وصرف النظر عن التدقيق على انتشار حوادث الإسلاموفوبيا في كيبيك، وإنما يعرض حياتها للخطر أيضاً، فمثلما يهدف مشروع قانون (21) إلى مراقبة المسلمات وإجبارهن على الاختيار بين عقيدتهن وسبل عيشهن والحد من أدوارهن في الحياة العامة، يهدف السياسيون في كيبيك إلى الرقابة على خطاب الغوابي والحد من حرية ممارسة الدور المنوط بها في منصبها الجديد.
من الغريب أن لا ترى مقاطعة، يدعي السياسيون فيها دعم قيمة حرية التعبير، أي تناقض بين فرض الرقابة وإسكات الغوابي، ورغم اعتذارها عن تصريحات 2019، إلا أنها لم تنل رضاهم أيضاً، ولم يطالبوا بعزلها فحسب، بل دعوا إلى إلغاء المنصب نفسه، الأمر لا يتعلق بمنصب الغوابي فقط، بل رد فعل عنيف من أولئك الساسة لوقف وإسكات أي جهود تكشف مسؤوليتهم عن زرع الكراهية.
للإطلاع على المادة الأصلية من (هنا)