بقلم أوسكار ريكيت
لا يختلف الدمار الذي خلفه زلزال فبراير 2023 عن ذلك الذي حل بمدينة أنطاكيا بعد الزلزال الذي ضرب المدينة عام 526 والذي شبهه المؤرخ البيزنطي جون مالالاس بعاصفة من النار والكبريت.
وكتب مالالاس في وصفه لما حدث عام 526: “كان سطح الأرض يغلي، وأصيبت أساسات المباني بصواعق رعدية تسبب بها الزلزال وأدت إلى احتراقها بالنيران حتى تحولت إلى رماد، حتى أن أولئك الذين فروا لم يسلموا من النيران”.
وأضاف: “نتيجة لذلك، أصبحت أنطاكية مهجورة، ولم يصمد سوى بعض المباني المجاورة للجبل، ولم يبقَ أي كنيسة أو دير أو أي مكان مقدس آخر دون أن يتم تمزيقه، لقد دمر الزلزال كل شيء تماما “.
وقال أحد سكان المدينة الشامية:” لقي ما يصل إلى 250 ألف شخص حتفهم وسط ذلك الهلع “، أما المباني التي لم يدمرها الزلزال فالتهمتها الحرائق التي اندلعت بعد ذلك.
ويوثق مالالاس أن هناك أشخاص ماتوا بعد اكتشافهم تحت الأنقاض وكيف فر بعض الناس بممتلكاتهم فقط لتتم سرقتها بعد ذلك.
ويقول إن مشيئة الله أرادت “أن يموت كل هؤلاء اللصوص -كان من بينهم رجل يدعى توماس قضى أربعة أيام “في سرقة الهاربين”.
وتقول إليزابيث جيفريز، زميلة أكسفورد وباحثة الأدب البيزنطي واليوناني، وفريقها: إنه “تم الكشف أيضًا عن أسرار أخرى تتعلق بحب الله للإنسان” كما ترجمت قولها كلية إكستر.
وجاء في الترجمة أنه “تم إخراج النساء الحوامل وهن بصحة جيدة برغم بقائهن تحت الأنقاض لمدة 20 أو حتى 30 يومًا، وكثيرات ممن وضعن مواليدهن تحت الأنقاض تم إخراجهن مع أطفالهن دون أن يصبن بأذى “.
وأُخرج الأطفال أحياء من تحت الأنقاض بعد 30 يومًا، وفي اليوم الثالث بعد الزلزال الذي سوى مدينة أنطاكية بالأرض، “ظهر الصليب المقدس في السماء في السحب فوق المنطقة الشمالية من المدينة، في ظل بكاء وتلاوة الصلوات من قبل كل من رآه لما يزيد عن الساعة”.
وذكر مالالاس أن “الامبراطور قدم الكثير من الأموال للمدن التي عانت”.
أصول يونانية
كانت أنطاكية تتموضع حيث يقع الآن جزء من مدينة أنطاكيا التركية الحديثة، وقد سويت بالأرض بسبب الزلازل القوية في الماضي، ثم أعيد بناؤها بعد ذلك.
وتقع المدينة فوق نقطة التقاء ثلاث صفائح تكتونية: الأفريقية والعربية والأناضولية.
هذا التقارب هو الذي أدى إلى وقوع الزلزالين التوأمين في 6 فبراير 2023، والذين أوديا بحياة أكثر من 42000 شخص حتى وقت كتابة هذا التقرير، ودمرت مرة أخرى أجزاء كبيرة من أنطاكيا، فيما يذكرنا بالدمار وعمليات الإنقاذ المعجزة التي رواها مالالاس.
لقد كان لكل من زلزال العام 115م، والذي تسبب بمقتل ما يقدر بـ 260 ألف شخص، وزلزال العام 526، الذي كتب عنه مالالاس أهمية كبرى خاصة بالنسبة إلى أنطاكية، على الرغم من الاعتقاد بأن التقديرات القديمة للوفيات في كلا الزلزالين مبالغ فيها بشكل كبير.
وفي الواقع، كان زلزال القرن السادس هو الأول في سلسلة من الأحداث – بما في ذلك الغزو الفارسي والوباء – التي شهدت انتقال أنطاكية من كونها واحدة من أهم المدن في الإمبراطورية الرومانية إلى مدينة أكثر تواضعًا معروفة بشكل أساسي بملامح غير عادية من المسيحية.
من هم الأشخاص الذين عانوا من هذه الكوارث، كيف بدت المنطقة في ذلك الوقت وماذا حدث لها في أعقاب هذا الدمار؟
وجدت أنطاكية في الأصل كنتاج لعالم انقلب رأسًا على عقب بسبب سلسلة الفتوحات المذهلة التي قام بها الإسكندر الأكبر (356-323 قبل الميلاد).
وبعد وفاة الفاتح، انقسمت الأراضي التي فتحها، والتي امتدت من اليونان وشمال إفريقيا عبر بلاد فارس والبنجاب إلى أربع ممالك.
“كانت أنطاكية مكانًا مفعما بالمرح حيث أحب أهلها الأنشطة الترفيهية، في ظل انتشار ضواحيها الجميلة والمناسبة للرحلات “- أنتوني كالديليس، جامعة شيكاغو
أسس أحد جنرالات الإسكندر، سلوقس الأول نيكاتور، مدينة أنطاكية على مصب نهر العاصي، على بعد ما يقارب الـ 300 ميل شمال القدس و20 ميلاً داخليًا من البحر الأبيض المتوسط.
منذ تلك البداية المقدونية، دخلت أنطاكية في نطاق الإمبراطورية الرومانية، التي سيطرت بالكامل على المدينة عام 25 قبل الميلاد.
ووفقًا لأنتوني كالديليس، الأستاذ في جامعة شيكاغو ومؤلف كتاب “الإمبراطورية الرومانية الجديدة: تاريخ بيزنطة”، نمت أنطاكية لتصبح رابع أهم مدينة في الإمبراطورية الرومانية بعد روما والقسطنطينية والإسكندرية.
وكانت سوريا، حيث تعتبر أنطاكية المدينة الرئيسية فيها، مزدهرة زراعياً ولديها الكثير من إنتاج القمح وزيت الزيتون والنبيذ، وخلال القرون التي تلت انضمامها إلى الإمبراطورية الرومانية توسعت المستوطنات في الريف وتأسست قرى جديدة.
بدأ استخدام الحجر في كثير من الأحيان في البناء، وظهر استخدام البلاط في بناء أسطح المنازل بدلاً من القش، كعلامات على الازدهار المتزايد.
وقال كالديليس: “كانت أنطاكية مدينة سعيدة ذات سمعة سيئة” وأضاف: “كانت مكانًا مفعما بالمرح حيث أحب أهلها الأنشطة الترفيهية، في ظل انتشار ضواحيها الجميلة والمناسبة للرحلات”.
وكان الإمبراطور الروماني تراجان وخليفته هادريان من المتضررين في زلزال العام 115 م، إلا أنهما خرجا بإصابات طفيفة وشرعا فيما بعد بتنفيذ برنامج لإعادة بناء المدينة، وفي ذلك الوقت، كان سكان أنطاكية لا يزالون في الغالب من الوثنيين.
مركز المسيحية
كان هناك أناس يعبدون الآلهة اليونانية وغيرهم يعبدون الآلهة الرومانية وآخرون يعبدون الآلهة السورية المحلية.
ومنذ تأسيس أنطاكيا، عاش في المدينة عدد كبير من اليهود، وفقًا لسفر أعمال الرسل في الكتاب المقدس، “في أنطاكية كان المؤمنون يُدعون أولاً مسيحيين.”
وكان القديس بولس، الذي توفي عام 64 أو 65 م، من طرسوس المجاورة، التي كانت في قلب المنطقة المتضررة من زلزال 115 م، وبعد وقت قصير من وفاته، اشتهرت أنطاكية – وسوريا بشكل عام – بطوائفها المسيحية.
وفي الوقت الذي كان فيه الأباطرة الرومان لا يزالون وثنيين، اعتقل الإمبراطور تراجان المسيحي الأول، إغناطيوس الأنطاكي.
وكان قسطنطين، الذي حكم الإمبراطورية من 306 إلى 337، أول إمبراطور يعتنق المسيحية، بعد ما يقرب من قرنين من الزمان.
وعلى الرغم من هذه الاضطرابات الدينية، ظلت أنطاكية مركزًا اقتصاديًا، حيث قدمت الكثير من أعمال التجارة إلى المدينة من الشرق.
وشكلت المدينة أيضًا نقطة استراتيجية للدفاعات الرومانية التي تتطلع نحو الإمبراطوريات الفارسية أو البارثية في الشرق ومقر قيادة للحدود الشرقية ليس بالضبط على الحدود، وإنما بالقرب منها – ولهذا السبب كان تراجان وهادريان في أنطاكية خلال زلزال العام 115.
ظهرت العديد من الشخصيات الهامة في أنطاكية، حتى قبل تمديد المواطنة الرومانية العالمية في العام 212، ففي القرن الثاني، تزوج تيبيريوس كلوديوس بومبيانوس، الذي جاء من عائلة متواضعة نسبيًا في المدينة، من ابنة الإمبراطور ماركوس أوريليوس.
وكان الجنرال الشهير بومبيانوس بمثابة الإلهام الرئيسي لشخصية ماكسيموس الخيالية، التي قام بتمثيلها راسل كرو في فيلم (Gladiator)، ولكون هوليوود هي هوليوود، فلم يكن ماكسيموس من الشرق الأوسط وإنما من إسبانيا، في أوروبا الغربية.
عُرض على بومبيانوس العرش الإمبراطوري ثلاث مرات، ورفضه في كل مناسبة، وفي العام 182، دبرت لوسيلا، زوجة بومبيانوس، محاولة فاشلة لاغتيال شقيقها كومودوس (الذي خلده جواكين فينيكس في الفيلم)، الذي خلف والده ماركوس أوريليوس.
أعدم كومودوس أخته لكن بومبيانوس، الذي لم يكن متورطًا في المؤامرة، نجا.
وفي عام 395، توفي الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول، تاركًا النصف الغربي من الإمبراطورية لأحد أبنائه والنصف الشرقي للآخر، حيث كان يُحكم الغرب من روما والشرق من القسطنطينية، لكن كالديليس قال “لم يكن هناك على الإطلاق سوى إمبراطورية واحدة”.
وفي القرن الخامس، سقطت الإمبراطورية الغربية وتحولت إلى سلسلة من الممالك البربرية، وبعضها كان يتشدق بفكرة أنها لا تزال جزءًا من إمبراطورية تحكمها القسطنطينية، حيث أصبحت هذه الإمبراطورية الشرقية تُعرف بالإمبراطورية البيزنطية – “آخر الرومان”، على حد تعبير بول كوبر.
وبحلول القرن السادس، كان يُعرف الناس في المنطقة المحيطة بأنطاكية بالسوريين، لكن هذه لم تكن تسمية عرقية، بل يمكن أن تنطبق، على سبيل المثال، على اليونانيين، الذين شكلوا غالبية سكان المدينة- حوالي خمسة ملايين شخص يعيشون على ساحل البحر الأبيض المتوسط من سوريا إلى مصر.
كان معظم هؤلاء يتحدثون السريانية، وهي شكل من أشكال الآرامية المتأخرة، وهي اللغة القديمة للشرق الأوسط وإحدى اللغات الأصلية للكتاب المقدس.
وقال كالديليس: “وبحلول العام 500، أصبحت معظم أنطاكية مسيحية، وكان هناك الكثير من المتحمسين لها… الزاهدون والنساك والأديرة في الريف.”
وكان الزاهد السوري سمعان العمودي من أشهر هؤلاء، حيث قضى 37 عامًا يعيش على منصة صغيرة فوق عمود بالقرب من حلب.
بنيت لتتحمل النيران وليس الزلازل
في الوقت الذي وقع فيه زلزال العام 526 م، كان هناك، وفقًا لما ذكره كالديليس، ثلاثة أنواع رئيسية من المنازل في الإمبراطورية الرومانية، من بينها فلل النخبة، التي كانت غالبًا في المدن، ويتراوح عدد طوابقها بين الطابق الواحد والطابقين، وكانت تقام على مساحات واسعة مع أفنية ونوافير وفي حال انهيارها، كان لدى أصحابها من الموارد ما يسمح بإعادة بنائها.
وكانت هناك أيضًا منازل صغيرة ومباني سكنية يمكن أن يبلغ ارتفاعها في كثير من الأحيان أربعة طوابق مما يجعلها خطيرة للغاية في حالة اكتظاظها بالسكان.
ومما يعطي فكرة عن طبيعة هذه المباني وجود رسالة (من بين المراجع) يشكو فيها أحد السكان من العائلة التي تعيش في طابق يعلو مسكنه، من تسرب بول خنزير كانت تقتنيه عبر السقف إلى منزله.
شيدت المباني بشكل رئيسي من الطوب والحجر وأنواع مختلفة من الطين والخرسانة.
وفي مكان أخر من الإمبراطورية، بنيت آيا صوفيا، الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية الشاسعة في القسطنطينية، باستخدام نوع جديد من الخرسانة، وبينما تسببت الزلازل على مر القرون في حدوث تصدعات في قبتها، إلا أنها لا تزال قائمة بعد حوالي 1500 عام من اكتمالها.
وقال كالديليس: “لقد فكروا في البناء لمقاومة الزلازل، ولكن القلق الأكبر كان من الحرائق، لأنهم استخدموا الكثير من الخشب في بنائهم، وأضاف: “لقد كانت قوانين البناء في العصور القديمة معنية بالحرائق”.
وأوضح بالقول: “كانت الزلازل شيئًا يمكن التعافي منه حيث كان لها تأثير محلي فقط، فالعمارات السكنية لم تزد عن أربعة طوابق، حيث كانت المدن والبلدات أقل كثافة … الأباطرة يعيدون البناء، ويتم وضع إعفاءات ضريبية”.
“وكان الأباطرة الرومان مستجيبين – فلم يكن لديهم انتخابات ليفوزوا بها لكنهم لا يريدون أن يغضب الناس أو يستاؤوا … حيث حظيت النخب الحضرية بالاهتمام في العالم الروماني “.
لكن في سوريا القرن السادس، تعرقلت هذه العملية، وزلزال العام 526 م كان بداية سلسلة من الكوارث التي دمرت المنطقة الرومانية.
وفي عام 540 م، شهد الغزو الفارسي إحراق أنطاكية على الأرض وترحيل سكانها الباقين على يد خُسرو، ملك إيران الساساني، إلى مدينة جديدة أطلق عليها اسم ” أنطاكية خُسرو الفضلى”، وتم بناء هذه المدينة الجديدة من قبل المهندسين المعماريين من أنطاكية الأصلية.
جنبا إلى جنب مع الناجين، تم وضع الأعمال الفنية والتماثيل وغيرها من الأشياء الثمينة الخاصة بأنطاكية على متن قوارب في نهر الفرات وطافت بعيدًا في الأراضي الساسانية.
كان البيزنطيون يعيدون بناء أنطاكية الأصلية- التي أعيدت تسميتها وأطلق عليها اسم (Theopolis)، بمعنى “مدينة الإله”، من أجل الحماية من المزيد من الكوارث – عندما ضرب المدينة طاعون جستنيان.
يُقدر أن هذا الوباء، الذي بدأ في العام 541، قتل ما بين 30 و50 مليون شخص، أو ما يقارب نصف سكان العالم في ذلك الوقت.
عانت أنطاكية من مشاكل أخرى، ووجدت نفسها على الخطوط الأمامية للحروب العربية البيزنطية لما يقرب من أربعة قرون، ثم الصراع بين الصليبيين والقوات الإسلامية.
وقال كالديليس: “ربما لن تعود أبدًا إلى المستويات التي كانت عليها في العام 500” حيث انتقل مركز المنطقة إلى دمشق ثم إلى بغداد.
وأصبحت أنطاكية “بلدة مسيحية منعزلة في الخلافة الإسلامية الشاسعة”، وشكلت الحدود العسكرية بين سوريا وهضبة الأناضول.
هذه الرحلة البعيدة عن مركز التاريخ لم تكن بسبب زلزال العام 526 م، لكنها بدأت هناك، حيث حفر الناس بين الأنقاض بحثًا عن طريق بعيدا عن الألم والدمار من حولهم.
للإطلاع على المادة الأصلية من (هنا)