حين كانت بغدادُ “دارَ السلام” كان “بيتُ الحكمة” منارةً للمعرفة والتواصل بين الشرق والغرب

حين كانت بغدادُ “دارَ السلام” كان “بيتُ الحكمة” منارةً للمعرفة والتواصل بين الشرق والغرب

بقلم أمل آيت حمودة

في بغداد، وفي القرن الثامن، اتخذت الخلافة العباسية قرارًا بالغ الأهمية بتأسيس مكتبة مخصصة للحفاظ على المعرفة من جميع أنحاء العالم، تُعرف باسم بيت الحكمة.

تم اعداد تصور المشروع في عهد الخليفة المنصور (754-775) كمستودع بسيط للكتب، بتصميم مستوحى من متحف الإسكندرية القديم (الموسيون) يدعى خزانة الحكمة، ثم تم توسيعه في عهد هارون الرشيد (765-809)، ليصبح مركزاً أكاديمياً مزدهراً.

ويقال إن الجاحظ ألف كتابه الرائد “كتاب الحيوانات” داخل المركز، وأن علي بن عيسى وخالد بن عبد الملك حصلا على قياس مكّن الفلكيين من حساب محيط الأرض في ذات المعلم الثقافي.

وكان كل من عالم الرياضيات الخوارزمي من القرن الثامن (الذي قدم ما أصبح يُعرف لاحقًا بالأرقام العربية)، والفلكي يحيى بن أبي منصور، والفيلسوف الكِندي، والصوفي الحلاج، من رعاة المكتبة.

وقد حرص الخليفة العباسي هارون الرشيد على جعل بغداد مركزا للنمو الفكري والاكتشافات العلمية وبيتا مزدهرا للفنون، وفور توليه السلطة أمر وزيره يحيى البرمكي بنقل جزء من مكتبة القصر الخاصة إلى مكان عام بحيث يكون بمقدور العامة من الناس الوصول إلى المكتبة بعد ان كان ذلك الامتياز حكرا على علماء الحاكم.

وسرعان ما جذب ما يعرف الآن باسم بيت الحكمة العلماء من كل مكان، ثم توسع بسرعة ليشمل دار ترجمة ومرصد وأماكن إقامة للعلماء الزائرين، إلا أن الابن الأكبر لهارون الرشيد، المأمون، الذي أصبح الخليفة العباسي السابع (786-833) كان لديه طموحات أكبر.

كان المأمون بارعًا في العلوم منذ طفولته المبكرة، وأنشأ في قصره فروعا متخصصة بكل جانب من المعارف المختلفة، حيث قدم إليه العلماء من جميع أنحاء العالم.

وهكذا ولدت دار الحكمة، وأصبحت بغداد التي كانت تُعرف آنذاك باسم مدينة السلام مركزًا للنشاط الفكري المكثف.

المأمون: راعي العلوم

تفانى المأمون في جمع النصوص وتوسيع المعرفة ما أكسبه لقب “حكيم بغداد”، لكنه لم يكتف بذلك، بل طور حدود المعرفة حين كلف المترجمين بترجمة مجموعة أعمال أدبية وعلمية إلى اللغة العربية.

فمن الأندلس إلى الصين، طبق المأمون استراتيجيتين مختلفتين، الأولى هي الحصول على المخطوطات النادرة والنصوص القديمة كغنائم حرب، بالإضافة إلى شراء أكثر من 800 من أعمال الأدب اليوناني القديم بموجب شروط معاهدة السلام الموقعة مع الإمبراطور البيزنطي ثيوفيلوس.

أما الاستراتيجية الثانية فتمثلت في إرسال بعثات إلى الأباطرة والحكام الآخرين لتسهيل جمع المخطوطات القيمة، مثل الأطروحة الفلكية للقرن الثاني للباحث اليوناني، بطليموس، الذي اشتق اسمه الإنجليزي، المجسطي، من ترجمتها العربية اللاحقة.

الترجمة كأداة للنقل

كانت شهية الخلفاء العباسيين للمعرفة كبيرة لدرجة أن مجموعة كاملة من المؤلفات العلمية الكلاسيكية تمت ترجمتها إلى العربية – بما في ذلك أعمال أرسطو والطبيب اليوناني جالينوس والجراح الهندي سوشروتا – وذلك بفضل بيت الحكمة.

وتقول إحدى الروايات الشعبية أن الدافع وراء حركة الترجمة كان لقاء المأمون مع أرسطو في المنام، إذ يبدو أن الفيلسوف حث الخليفة على الحفاظ على معرفة الحضارات القديمة من خلال جمع الأدب الكلاسيكي ورعاية الترجمة

وتشمل الأعمال المترجمة في بيت الحكمة كتب أرسطو: البلاغة وفنون الشعر، والميتافيزيقا والفئات، وفي الروح، بالإضافة إلى كتب أفلاطون: الجمهورية والقوانين، وتيماوس.

كانت لغات العمل الأساسية في أكاديمية بغداد هي اليونانية، والسريانية، والفارسية، والعربية، ومع ذلك، كانت الترجمات في مجلس النواب خاضعة لثلاثة شروط: أن يكون المترجمون على دراية بمجال الترجمة، وأن يجيدوا لغتين على الأقل من اللغات الرسمية لدار الحكمة، وأن يقوموا بالترجمة من المصادر الأصلية فقط.

وقيل إن المترجمين كانوا يحصلون على ذهب يساوي وزن كل كتاب يكملون ترجمته بنجاح، وفي ذلك الوقت، كانت اللغة العربية هي اللغة العالمية للعلم والتعلم.

كان الطبيب حنين بن إسحاق (1405-1468)، برفقة ابنه إسحاق بن حنين وابن أخيه حبيش، من أهم مترجمي الرسائل الطبية والعلمية اليونانية، ولاحقًا، عيّنه المأمون رئيسًا للتحرير كمسؤول عن مراجعة جميع الترجمات في مجلس النواب.

لكن ابن إسحاق لم يكن ليكتفي فقط بالترجمة والتحرير، فبدلاً من ذلك، قام بتوسيع مفردات اللغة العربية من خلال إدخال مصطلحات علمية جديدة، حيث أخذ كلمات يونانية، ككلمة “فلسفة” التي أصبحت كلمة عربية، ووجد حلولاً للترجمة من خلال ما يسميه المترجمون المعاصرون مرادفات.

كما قام العالم الآشوري يحيى بن البطريق (730-815) بترجمة جميع الأعمال الرئيسية للأطباء اليونانيين القدماء، بما في ذلك جالينوس وأبقراط، كما قام بتجميع الكتاب العالمي سر الأسرار، المعروف في الغرب باسم Secretum secretorum.

وكذلك كان عبد الله بن المقفع (724-759) رائداً آخر في الترجمة الأدبية برعاية بيت الحكمة، وكمؤسس للنثر العربي، قام بترجمة ثروة من الأعمال من الفارسية، بما في ذلك كتابه الشهير كليلة ودمنة، وهو مقتبس من مجموعة الحكايات والخرافات الهندية القديمة Panchatantra، والتي ألهمت، بعد عدة قرون، الشاعر الفرنسي في القرن السابع عشر جان دي لا فونتين.

فترة التراجع

بعد وفاة المأمون، دخل بيت الحكمة فترة من التدهور البطيء ليصل إلى الانهيار بالكامل مع وصول المغول تحت حكم هولاكو.

وفي عام 1258، نهب الجيش المغولي مدينة بغداد وألقى بعدد كبير من المخطوطات في نهر دجلة لدرجة أن المياه أصبحت سوداء من الحبر.

وبعد توقع للمأساة الوشيكة، أنقذ عالم الفلك الفارسي ناصر الدين الطوسي (1201-74) عدة آلاف من المخطوطات بنقلها إلى مرصد المراغة في شمال غرب إيران، الذي بناه الحاكم المغولي هولاكو عام 1259.

لقد ألهمت ذكرى بيت الحكمة منذ ذلك الحين ثورة من المبادرات في الشرق والغرب، والتي التزمت بمواصلة روح دار الترجمة الرائدة، بما في ذلك، مؤخرًا، مؤسسة “دار الحكمة- ترجم”، في باريس، التي أطلقتها الفيلسوفة والأكاديمية الفرنسية باربرا كاسين.

للإطلاع على المادة الأصلية من (هنا)

مقالات ذات صلة