بقلم لارا جيبسون
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
يجتهد محمد كمال في تذكر وإحياء بعض الوصفات التي كان يراقب جدته وهي تصنعها في بلدته النوبة في مصر.
اليوم، يستخدم الشيف المصري المتخصص في المطبخ النوبي الحديث منصته على وسائل التواصل الاجتماعي لإحياء الوصفات التي كانت ذات يوم شائعة، ولكنها الآن على وشك الانقراض.
ويعتقد الشيف كمال أن الطعام يسمح بالاحتفال بالماضي وقصص الأسلاف، فالوصفات التي تم تناقلها من جيل إلى جيل في مصر أصبحت تتلاشى الآن لعدم توفر المكونات التقليدية، مع خطورة أن تضيع معها المعرفة إلى الأبد.
في مصر، لا يُنظر إلى الطعام على أنه شكل من أشكال القوت فحسب، بل طقسا يجمع الناس معًا في البيئات الاجتماعية، ووسيلة لتحسين المزاج في الأوقات الصعبة، وأداة للتعبير عن الإبداع.
واليوم، يعمل عدد من النشطاء الثقافيين والمطاعم المستقلة للحفاظ على الإرث الغني للغذاء في مصر.
وصفات مهددة بالانقراض
تقول ماجدة مهداوي، مؤلفة كتاب “مطبخ جدتي المصرية”، إن أولئك الذين يعملون على الحفاظ على المطبخ المصري لهم دور مهم، حيث يشكل الطعام جزءًا أساسيًا من ثقافة البلاد، خاصة وأن العديد من المحاصيل والمكونات قد فقدت في مصر على مر السنين”.
@sheryturk وصفة جدتي المصرية ♥️#أكله_فى_طاسة_وصفات_جدتي #المطبخ #وصفات_طبخ #اكلات_زمان #اكسبلور #المطبخ #اكلات_سريعة
وأضافت: “يُعد الطعام جانبًا مهمًا للغاية في أي ثقافة، ومن ثم فإن الحفاظ على المطبخ المصري الأصيل يساعد في الحفاظ على هويتنا المصرية من الضياع”.
على مدار السبعين عامًا الماضية، نما عدد السكان في مصر من 21 مليونًا في عام 1950 إلى 112 مليونًا اليوم، وتطور مشهد الطهي في البلاد ليعكس هذه الثورة الاجتماعية.
استجابة للازدهار السكاني خلال النصف الأخير من القرن العشرين، نفذت الحكومة المصرية إصلاحات زراعية لا رجعة فيها لإطعام مواطنيها، ومع الزراعة المكثفة جاء تراجع العديد من المحاصيل التقليدية مثل مكسرات النمر، الرجلة والتين الجميز.
أدت التغييرات البيئية اللاحقة مثل تآكل التربة والإفراط في الزراعة والإفراط في استخدام المواد الكيميائية إلى تقليل التنوع البيولوجي، وباتت مصر الآن تفقد حوالي خمسة أفدنة من الأراضي بسبب التصحر كل ساعة، مما يجعل الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة أكثر ندرة.
قامت مجموعة حفظ الطعام الإيطالية (Fondazione Slow Food) بتحديد حوالي 36 نوعًا مختلفًا من المحاصيل والوصفات والمواشي المعرضة للانقراض في مصر خلال بضع أجيال.
على المستوى الاجتماعي، تسببت الهجرة الحضرية في جعل المطبخ المصري أكثر تجانسًا، وتم اعتماد الوجبات السريعة على نطاق واسع بسبب التحولات الاجتماعية والاقتصادية.
وتقول مؤرخة الطعام وعالمة الآثار المصرية منة الله الدري إن “الطعام يلعب دورًا في كل جانب من جوانب حياتنا، فالشيء الجميل بالطعام هو أنه يمس كل شيء من حولنا: السياسة والاقتصاد ووعينا بالعالم”.
وصفات تراثية تقليدية
تتعرض بعض الوصفات للانقراض في جميع أنحاء مصر، أبرزها المناطق الريفية الأقل نموًا اقتصاديًا مثل النوبة وسيناء، وهي أكثر عرضة لتأثيرات المناخ والتغير الاجتماعي.
خضعت منطقة النوبة لتحول كبير في الستينيات، حيث أدى بناء السد العالي في أسوان إلى نزوح حوالي 50 ألف نوبي من أوطانهم الخصبة، وفقدت عناصر من تراثهم إلى الأبد.
اليوم، يحرص المزيد من الناس على توثيق الأطعمة النوبية والحفاظ عليها، ومع ذلك، فإن طهي الأطباق ليس بهذه البساطة.
عندما طور أحمد يحيى، مؤسس إحدى أولى المدن البيئية في مصر، فندقًا ومطعمًا بيئيًا مستدامًا، واجه معارضة من موظفيه المحليين الذين لم يصدقوا أن الناس خارج النوبة سيرغبون في تناول المأكولات التقليدية.
كانت هناك عقبة أخرى تتمثل في العثور على الأدوات اللازمة لصنع الطعام التقليدي، ففي الماضي، كان يتم طهي كل الأصناف في الفخار، بينما يستخدم معظم الطهاة اليوم أدوات معدنية.
تمكن فريق يحيى في نهاية المطاف من تعقب أحد الخزافين وتقديم تصورهم له عن الأدوات التي يحتاجونها لاستخدام الأساليب التقليدية عند إعداد وجبات الطعام.
الأطعمة النوبية تتلاشى
وأوضح كمال أن الطعام النوبي أعمق بكثير من مجرد وجبة توفر لك قوت اليوم، بل تعكس قصصا وتقاليد.
واحدة من وصفاته المفضلة التي نادرا ما ترى اليوم هي طبق يسمى “نولو مديد” يتم تحضيره بشكل تقليدي قبل الأعراس، وهو عبارة عن طبق بسيط يشبه العصيدة مصنوع من دقيق القمح والسمن والماء مع خيارات لإضافة الحليب أو دبس السكر الأسود.
تقليديا، كان يحضر طبق نولو مديد من قبل العائلات في المنزل ثم يتم تناوله على ضفة النهر للاستمتاع بالطبق، ويقوم العروسان المستقبليان بغسل الأطباق في النيل.
ومن بين الأطباق الأخرى التي باتت عرضة للانقراض “كشك مطروح” وهو عبارة عن بودنغ لذيذ.
يعيش بدو مطروح على طول الساحل الشمالي غربي الإسكندرية، وقد قاموا بتربية الأغنام في الاراضي الخصبة لمئات السنين، وبمرور الوقت طوروا أشكالهم الخاصة من الكشك.
ولإعداد طبق الكشك، يأخذون الحليب من الأغنام ويخمرونه طوال الليل أو لبضعة أيام، ثم يخضون الحليب بقوة حتى يخرج اللبن المصفى والمعروف بالجميد ويخلطونه بالشعير، ثم يشكلونه على شكل كرات ويوضع في أوعية حتى يجف، في عملية تستغرق حوالي خمسة أيام في الصيف وتصل إلى أسبوعين في الشتاء.
وبسبب عدم إمكانية الوصول إلى أراضي الرعي وعدم توفر التكاليف الإضافية، يستخدم بدو مطروح عادةً الحليب الذي يتم شراؤه من المتاجر مما جعل الكشك يفقد مذاقه المتميز.
في شبه جزيرة سيناء في شمال شرق مصر، كانت القبائل البدوية المحلية تصنع “خبز الفراشيش” منذ أجيال باستخدام مكونات بسيطة من الماء والدقيق والملح المأخوذ من مياه البحر أو من بعض فروع المزارع الصحراوية.
أصبح خبز الفراشيش نادرا بشكل متزايد بسبب الدعم الحكومي الذي يضمن توفير الخبز أو الدقيق، مما يعني تحفيز عدد أقل من الناس لزراعة القمح المستخدم في صناعة الفراشيش، سواء في الصحراء أو في المناطق الريفية.
والنتيجة هي اختفاء العديد من أصناف القمح المحلية والتقاليد المحلية المرتبطة بزراعة وإنتاج الخبز التقليدي.
الحفاظ على الوصفات
اليوم، يأخذ الناس على عاتقهم الحفاظ على الوصفات المصرية التقليدية، وبينما قد لا يكون من الممكن القيام بذلك بدقة، إلا أن أفرادا مثل كمال ويحيى والمهداوي يعملون بجد لنقل القصص والتراث الكامن وراء الأطباق والمكونات.
فكمال يستمد الإلهام من أسلوب جدته في الطهي ويمزجها مع تقنياته الأكثر حداثة، ومهداوي اختارت توثيق الوصفات التي كانت تعدها جدتها في كتابها الجديد “مطبخ جدتي المصرية”، ويحيى يعرض الطعام النوبي على السائحين والأشخاص الذين ربما لم يسمعوا به من قبل.
بالنسبة إلى الدري، فإن الحفاظ على هذه الأطباق والسماح لها باتخاذ منحنيات جديدة يسمح بتنوعات مثيرة ويثري تراث المجتمع المصري بشكل أكبر.
وتقول مؤرخة الطعام: “إذا نجحنا تماما في الحفاظ على التاريخ بشكل دقيق، فلن نشهد أبدًا التغيير أو التحول الرائع لبعض الأطباق كما الكشري”.