بقلم عزة أحمد عبد العزيز
ترجمة وتحرير مريم الحمد
أذكر أني في يوم 13 أبريل، كنت قد أرسلت إلى أحد أفراد أسرتي المقيمين في المملكة المتحدة مقطع فيديو قصير على واتساب يخاطب فيه ممثل عن القوات المسلحة الشعب السوداني واصفاً الوضع الأمني في البلاد بأنه “بات هشاً للغاية”، في نفس اليوم، حشدت قوات الدعم السريع حول الخرطوم ومدن أخرى، دون أي ترتيب أو تفاهم مسبق مع القوات المسلحة!
أعلنت القوات المسلحة، على إثر ذلك، أن “الجيش سوف يحتفظ بالحقوق الدستورية والقانونية لحماية أمن السودان من مثل هذه التجاوزات، مع محاولة تجنب الصراع المسلح”، كما ظل المتحدث العسكري مصراً على التزام الجيش بضمان احترام الاتفاق السياسي المقرر توقيعه في إبريل، من أجل إقامة حكم مدني كامل.
رد علي قريبي البالغ من العمر 24 عاماً عن رد فعل الجمهور السوداني على الخطاب، فكان ردي “بصراحة الناس مشغولون في رمضان”، فقال بقلق “ولكننا بالتأكيد لا نسير باتجاه جيد”، وكان قلقه في محله، فبعد مرور يوم على محادثتنا تلك، بدأت الأوضاع على الأرض تزداد سوءاً، حتى مر بي مقطع فيديو على تيك توك تحدث فيه زعيم قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي، عن كيفية تعرضه لمشكلة خطيرة مع من اعتبرهم “يسعون إلى إعاقة الديمقراطية”، وكيف أنه “لن يتسامح إلا مع الحكم الديمقراطي المدني”، وكيف أنه “يتم تهريب الذهب إلى خارج السودان”، وكيف أنه في الوقت الذي زادت فيه سيطرته على الحدود البرية شعر “بالإنزعاج لعدم احتفاظه بالسيطرة على مطار الخرطوم”!
الحرب الشاملة التي تهدد السودان اليوم ما هي إلا مظهر من مظاهر العلل الكثيرة التي يعاني منها السودان من عقود، والآن تظهر بأبشع صورها!
فيديو بدا فيه أن حميدتي يتهم الجيش بإعاقة الحكم المدني، باعتباره العائق الأهم أمام البلاد في الحصول على دعم إماراتي أو أوروبي للمرحلة القادمة، بدا كلام حميدتي وكأنه تهديد مدروس، فرغم تأكيده على عدم وجود خلاف له مع الجيش إلا أن لاحظ “بعض المظالم ممن يتشبثون بالسلطة” على حد قوله.
صدمة وخوف
بدأ انزلاق الخرطوم نحو العنف سريعاً بعد إطلاق النار الذي حصل ذلك ذلك النهار بالقرب من مدينة الصحافة الرياضية جنوب العاصمة، فقد أظهرت تغطية الجزيرة مشاجرات مسلحة في منطقة مروي شمال السودان، بالإضافة إلى استهداف مناطق تحت سيطرة قوات الدعم السريع من قبل طائرات عسكرية تابعة للجيش السوداني.
وهنا تأكد لي أن خطاب حميدتي ونبرته كانت نذيراً لما سيحدث بعد ذلك، فقد تحولت الخرطوم إلى ساحة حرب فعلية، صاحبتها مشاعر خوف وصدمة وسط المدنيين الأبرياء الذين لم يعودوا يرون إلا موتاً يلوح في الأفق بعد أن بدأ نهار العاصمة يومها هادئاً!
رغم ذلك، أنا لا أعتبر ما حصل استثنائياً في تاريخ البلاد، فالحرب الشاملة التي تهدد السودان اليوم ما هي إلا مظهر من مظاهر العلل الكثيرة التي يعاني منها السودان من عقود، والآن تظهر بأبشع صورها!
لعقود، كان السودان فريسة لأشكال متعددة من العنف الموجه من قبل الحكومات التي تعاقبت عليه تجاه شرائح سكانية متنوعة، أو ما يسمى الحرب الأهلية والتي كان أبرزها، أطولها بين (1955-1972) و (1983-2005)، والتي كانت نتيجتها الانقسام عن المنطقة الجنوبية عام 2011، بالإضافة إلى الحرب الأهلية المستمرة في دارفور منذ عام 2003، والحرب جنوب كردفان والنيل الأزرق عام 2011، والنزاعات المسلحة في شرق السودان بين جماعات النوبة وبني عامر منذ عام 2019، انتهاء بالوضع السياسي المضطرب بين تحالفات هشة منذ الانقلاب العسكري الأخير عام 2021 على الثورة السودانية التي أطاحت بالبشير عام 2018.
قصة انفصال جنوب السودان خسارة مفجعة لجزء أساسي من الأمة السودانية، خسارة شكلت نداء صاخباً وسلطت الضوء على قمع الدولة المفرط
أما العنف اليوم، فقد نجح في اختراق قلب الأمة السودانية، متجسداً في عاصمتها الخرطوم، لنسمع حقيقة مخيفة ولكنها باتت مدوية واضحة، مفادها أن الامة السودانية تنهار تحت وطأة الظلم المتراكم وغياب المساواة والمظالم التي لم يتم حلها في مرحلة ما بعد الاستعمار.
حتى إذا نظرنا إلى التاريخ الذي سبق مرحلة الاستقلال، فسنجد أن الخرطوم لم تسلم من الاضطرابات السياسية في مسار تاريخها كمدينة، فقد كانت موقعاً لعدد من الثورات مثل انتفاضة المهدية ضد الحكم البريطاني المصري والتي انتهت بسقوط الخرطوم عام 1885، والثورة القومية لاتحاد الرايات البيضاء عام 1924، وثورة 1964 التي أسست الديمقراطية لزمن قصير قبل أن يوقفها النظام العسكري لجعفر النميري عام 1969، ثم انتفاضة أبريل التي أسقطت النميري عام 1985، كما نجت المدينة من الانقلاب العسكري السلمي عام 1958 ومن الانقلاب الأكثر عنفاً على يد هاشم عطا عام 1971.
غضب ثوري!
الثورة الأخيرة التي وجدت طريقها للخرطوم في 25 ديسمبر عام 2018، كانت تمثل لأول مرة مجموعات سودانية متنوعة اجتمعت معاً في انسجام بدا تاماً وقتها، ورفع شعار القيم الإنسانية ومفاهيم الحرية والعدالة، والتي تجاوزت وقتها المناورات السياسية الضيقة لفصائل النخبة الساعية إلى السلطة والثروة على حساب الشعب السوداني.
لقد تم توجيه ثورة 2018 إلى نظام إسلامي استبدادي مدعوم من الجيش الذي انقلب على الديمقراطية عام 1989، وحكم السودان 30 عاماً متتالية بقبضة حديدية من خلال استغلال الدين لصالح الموالين له، ذلك النظام هو المسؤول الأكبر عن جذور الانقسام والفوضى التي تسببت بالعنف الذي تواجهه السودان اليوم.
بدلاً من أن يصبح التنوع الثقافي الواسع مصدراً للازدهار، أصبح مركزاً للصراع على السلطة وجمع الثروة لمصلحة تلك المجموعات الحزبية أو الفصائلية، التي أخذت تفرض مجموعة محددة من المراجع الاجتماعية التي تجعلك سودانياً!
عام 2013، تم إضفاء الشرعية على ميليشيا “الجنجويد” سيئة السمعة في دارفور، بل ومنحتها لقباً رسمياً!
ومع ثورة 2018، بدأ الوعي الوطني في التشكل من جديد، وبدا أن السودانيين يحاولون إيجاد لغة مشتركة للتعبير عن رفضهم للمزيد من التجزئة، فقد اعتبر العديد من السودانيين أن قصة انفصال جنوب السودان خسارة مفجعة لجزء أساسي من الأمة السودانية، خسارة شكلت نداء صاخباً وسلطت الضوء على قمع الدولة المفرط آنذاك.
حضور الشر!
بعد سقوط البشير، وما يمكن اعتباره نجاح الهدف الرئيسي للثورة المتمثل بإسقاط النظام القمعي، شهدت البلاد شهرين من الكرنفال الوطني الذي شمل لغة حوار بين الأطياف المختلفة، ولم يكن أحد يتوقع وقتها أن ما بعد ذلك سيكون مظلماً وأن ما بعد تلك المساحة من الحوار مذبحة تلوح في الأفق!
لقد تجسد الوجود الشرير وغير المرئي في تلك المرحلة، في تحالف في الظل بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، فمنذ عام 2013، أضفى الجيش السوداني الطابع الرسمي على قوات الدعم السريع بتحويلها إلى هيكل شبه عسكري يتمتع بدرجة من الاستقلال الذاتي، رغم انضوائه تحت الجيش من الناحية النظرية، وبذلك تم إضفاء الشرعية على ميليشيا “الجنجويد” سيئة السمعة في دارفور، بل ومنحتها لقباً رسمياً!
عبر حميدتي، زعيم قوات الدعم السريع، عن تطلعاته للسلطة مبكراً وتملق للبشير، فقد اتسم طموحه ببراغماتية المصالح بدلاً من الإخلاص والولاء، فبمجرد إدراك حميدتي أن البشير قد فقد ثقة الشعب، انضم إلى الثورة ليكون في صف المنتصر، بل حرص على إبداء حماس شديد نحو مطالب الثوار بحكم مدني كامل في اعتصامهم لأسابيع في أحد شوارع العاصمة.
بعد شهرين من الكرنفال الوطني الحالم، وفي صباح 3 يونيو عام 2019 على وجه التحديد، استيقظت الخرطوم على رائحة الدم، تم تفريق الاعتصام بوحشية من قبل قوات مشتركة بين الجيش وقوات حميدتي، لكن سرعان ما نفى حميدتي تورطه، ولكن سيرته الذاتية كزعيم للجنجويد كانت أسبق في وصمه، فزاد ازدراؤه من قبل النخب السياسية المدنية منذ ذلك الحين و تكشفت حقيقته كأمير الحرب الذي قتل في دارفور!
أما قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، فقد أصبح مع الوقت عاجزاً عن مواجهة الضغوط التي تمارسها الفصائل الإسلامية داخل الجيش لاستعادة السلطة المفقودة.
خطايا الجنرالات
دفعت المخاوف التي باتت تحيط بالواقع السياسي المضطرب للسودان قوى الحرية والتغيير المدنية إلى محاولة التوصل لحل وسط تجنباً لمزيد من سفك الدماء، ومن هنا تم إخفاء خطايا الجنرالات والتوصل إلى اتفاق بعد شهرين من مذبحة اعتصام الخرطوم، التي دمرت الآمال بحكم مدني كامل، وأسست بدلاً من ذلك لقيام حكومة انتقالية على أساس شراكة غير مستقرة بين الجيش وقوات حميدتي والمدنيين.
واجهت تلك الفترة عقبات عديدة، فقد تم تأسيس حكومتين من أغسطس 2019 حتى أكتوبر 2021، وخلال الحكومة الأولى، لم يكن القطاع المدني الممثل بقوى الحرية والتغيير قادراً على دعم الحكومة بقيادة عبد الله حمدوك لضعف تحالفه، أما الحكومة الثانية، فقد تم تشكيلها بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر عام 2020، حيث عبر الموقعون عن انتماءات واضحة تجاه النظام الإسلامي البائد، الأمر الذي جعل من المستحيل على رئيس الوزراء تنفيذ خططه لتصحيح الاقتصاد السوداني المحاصر.
كانت 15 يوماً من المداولات السياسية الفاشلة كفيلة بإطلاق العنان لنيران الحرب
في ظل ذلك، وضع الجنرالان، حميدتي والبرهان، خلافاتهما جانباً، وتحالفا في إسقاط الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر عام 2021، وهنا بدأ مفترق الطريق بين الرجلين، فالبرهان اختار دعم الإسلاميين، أما حميدتي فقد أنشأ تحالفات مع جهات أجنبية مثل الروس والإماراتيين، فصار يتمتع باستقلال ذاتي أكثر من أي وقت مضى، كما أن ثروته التي نهبها من ذهب دارفور أتاحت له المضي في مسار قراراته الخاصة نحو بريق السلطة!
التشبث بحلم السلطة!
لقد شكل فشل القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في الاتفاق على شروط الاتفاق الإطاري للوضع النهائي، والذي تم تقديمه كمسودة من قبل الجيش وقوات الدعم السريع وبعض القوى المدنية، في 26 مارس 2023، ورقة التوت الأخيرة التي أدت لانفجار الصراع الذي يعيشه السودان اليوم، فلم يستطع البرهان وحميدتي التوافق أو حتى قبول حكم مدني كامل والاعتراف بأخطاء انقلابهم عام 2021.
ويتمحور الخلاف الأخير بين البرهان وحميدتي فعلياً حول زمن وكيفية دمج قوات الدعم السريع داخل الجيش، فالقوات المسلحة تريد دمج القوات ضمن تدريب خلال عامين، فيما يرى حميدتي أن الإطار الزمني لا يجب أن يقل عن 10 سنوات!
لقد خلافهم العلامة السيئة الأبرز على بوادر الصراع القائم اليوم، فقد كانت 15 يوماً من المداولات السياسية الفاشلة كفيلة بإطلاق العنان لنيران الحرب، وباتت وقائع الأرض في السودان تشير بوضوح إلى أن أياً من القوى العسكرية غير مستعدة للتنازل عن السلطة، ولم تعدل سلوكها حتى في احترام الشعب السوداني أو تعهداتها السابقة!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)