تمثل الحرب في السودان اختبارا لرغبة القوى الخليجية في اتباع شكل أكثر دقة من فن الحكم بعد ما يقرب من عقد من التدخل الساخن والمتذبذب في الصراعات الإقليمية.
فالقتال بين قوات الجيش السوداني بقيادة اللواء عبد الفتاح البرهان ووحدات الدعم السريع بقيادة حليفه السابق محمد حمدان دقلو يتناقض مع الكثير من المتغيرات التي تشهدها المنطقة.
ففي اليمن، تبادلت المملكة العربية السعودية الأسرى مع الحوثيين المتحالفين مع إيران في إطار سعيها لإنهاء الحرب، كما رممت كل من الإمارات والسعودية علاقاتهما مع إيران، ورحبتا بعودة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الحظيرة العربية.
وهدأ القتال حتى في ليبيا التي لا تزال منقسمة بين المعسكرات المسلحة المتناحرة.
وقال كين كاتزمان، كبير المستشارين في مجموعة صوفان “إن دول الخليج تريد تسوية الأمر في السودان”.
ويعتقد الخبراء أن الصراع في السودان سيئ التوقيت بشكل خاص بالنسبة للسعودية، لأن خطط ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتنويع اقتصاده المعتمد على الوقود الأحفوري تعتمد بشكل كبير على ساحل البحر الأحمر.
ومن المقرر أن يكون الساحل الشمالي للمملكة العربية السعودية موطنًا مستقبليًا لمدينة نيوم، وهي مدينة ضخمة مستقبلية بقيمة 500 مليار دولار، فيما أعلنت الرياض قبل أيام قليلة من اندلاع القتال في السودان عن خطط لإقامة منطقتين اقتصاديتين خاصتين على البحر الأحمر.
قال عزيز الغشيان، الباحث السعودي في السياسة الخارجية:” إن آخر ما تحتاجه السعودية الآن هو سوريا على بحر الرياض”.
وأوضح أن السعودية تريد حقا أن يكون السودان مستقرا، مضيفا:” إذا كان السودان غير مستقر، فإن المشاريع على البحر الأحمر لن تحقق إمكاناتها وهذا ما يقلق الرياض الآن “.
وبينما يعتبر المحللون قرب السعودية من السودان واحداً من الأسباب التي تجعلها تتخذ نهجًا أكثر حذرًا تجاه الصراع، فإنهم يقرؤون تحولًا أعمق يجري أيضًا في القصر الملكي.
ففي عام 2015، قاد وزير الدفاع السعودي آنذاك، محمد بن سلمان، بلاده إلى حرب دموية ضد المتمردين الحوثيين في اليمن دون أن ينجح في طرد الجماعة.
ويقول توربيورن سولفيرت، المحلل في شركة المخاطر Verisk Maplecroft، إن الرياض تعلمت على ما يبدو حدود سياستها الخارجية العدوانية من اليمن.
وأضاف سولفيرت أن “الفشل في صد النفوذ الإيراني في المنطقة دفع المملكة العربية السعودية نحو مواقف أكثر تصالحية”.
أتاح عزل عمر البشير في عام 2019 للرياض فرصة لتعميق حضورها في جارتها الاستراتيجية الغنية بالمعادن، وفي العام الماضي، أعلنت عن خطط لاستثمار 3 مليارات دولار في قطاعات كالزراعة والتعدين والبنية التحتية السودانية.
وفيما أقام السعوديون علاقات مع قائد الجيش البرهان، إلا أن لديهم أيضًا خطًا لقائد قوات الدعم السريع حميدتي، كما يشاركون في “الرباعية” الدولية الداعمة لعملية الانتقال الديمقراطي في السودان.
وتم إرسال السفير السعودي حسن جعفر إلى السودان منذ عام 2018، بعدما عمل سابقًا سفيراً للرياض في روسيا ويعتبر أحد أكثر الدبلوماسيين مهارة في المملكة.
قام جعفر بدور فعال في التحدث إلى كل طرف، حتى قال بنجامين أوج، المتخصص الأفريقي في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية أنه “يمكن للسعوديين الاعتماد عليه”.
ويعمل السعوديون بدعم من الولايات المتحدة كوسيط للجمع بين البرهان وحميدتي لإجراء محادثات في الرياض خلال الأسابيع المقبلة.
وساعد التدفق المستمر للمغتربين الغربيين واللاجئين السودانيين الفارين إلى بر الأمان في المملكة العربية السعودية في تعزيز صورة الرياض المحايدة، وشكر الرئيس الأمريكي جو بايدن السعودية على مساعدتها في إجلاء الدبلوماسيين الأمريكيين.
ويقول بعض المحللين إن الرياض تحاول محاكاة دور قطر التي نالت استحساناً لمساعدتها في الانسحاب من أفغانستان، حيث يصف أوج نهج المملكة “الحذر” في مقاربة الصراع بالذي يتناقض مع التوجه “الجريء” لدولة الإمارات العربية المتحدة.
يُنظر إلى الإمارات على أنها مقربة من حميدتي، وأنها من دفعته لإرسال قوات للقتال في اليمن.
كما يشتبه في أن قوات الدعم السريع التابعة له عززت موقع قائد الجيش الليبي وحليف الإمارات خليفة حفتر، الذي ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أنه أرسل ذخيرة إلى حميدتي وسط القتال الأخير.
وفي تغريداته، برر حميدتي القتال بالزعم أن قواته تقاتل “الإسلاميين المتطرفين”، وهو تعليق قال الغشيان إنه على الأرجح إشارة إلى الإمارات.
أمضى حميدتي أسبوعين في الإمارات العربية المتحدة في فبراير حيث التقى بكبار القادة الإماراتيين بمن فيهم نائب رئيس الدولة الشيخ منصور بن زايد آل نهيان.
ويقول جوناس هورنر أن الإمارات العربية المتحدة ربما تكون قد تفاجأت من اندلاع القتال، لأنها لم تكن تعمل على تمكين قدراته المالية والعسكرية بهدف خوض الحرب مع القوات المسلحة السودانية.
وتعمل أبو ظبي على إنشاء شبكة بحرية تمتد من جزيرة سقطرى اليمنية إلى دويلة القرن الأفريقي غير المعترف بها المسماة أرض الصومال.
وفي كانون الأول/ ديسمبر، وقعت مجموعة موانئ أبو ظبي صفقة لتطوير ميناء جديد بقيمة 6 مليارات دولار على بعد 200 ميل شمال بورتسودان.
ويبرز المشروع الشبكة المتشابكة للمصالح التجارية والجيوسياسية الإماراتية في السودان، فشركة موانئ أبو ظبي مملوكة لشركة ADQ، وهي شركة قابضة يديرها الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان رئيس الأمن الوطني الإماراتي.
قال كاتزمان أن دول الخليج نثرت أوراقها حول الطاولة لدعم برهان وحميدتي، “ولكن في نهاية المطاف، ربما تكون الإمارات العربية المتحدة أكثر قلقًا بشأن من هو الفائز المباشر”.
جنرالات السودان على الطاولة
وقال هورنر إن القوات شبه العسكرية التابعة لحميدتي التي قامت بعمليات النهب، تحصل على رواتب أفضل من خصومها في الجيش السوداني.
وقال: “انضم الكثير من الشبان إلى قوات الدعم السريع على حساب الجيش للاستفادة ببساطة من مستوى رواتبهم الأعلى”، متابعا:” قوات الدعم السريع معرضة بشكل خاص للضغوط المالية.”
وبعد أسبوعين من القتال، لا توجد مؤشرات تذكر على توقف التدفق النقدي لحميدتي، كشكل من أشكال التقاعس الذي قال هورنر إنه يمكن اعتباره “سياسة”.
كما ألقت قطر بنفسها في هذا المزيج من التدخلات، حيث يقول محللون إن القطريين يتطلعون لاستعادة نفوذهم في السودان منذ الإطاحة بالبشير الذي رفض التوقيع على جهود سعودية وإماراتية لعزل الدوحة.
وفي آذار/ مارس، سافر البرهان إلى الدوحة لمناقشة التعاون العسكري مع وزير الدفاع القطري.
لكن هورنر يقول إن القوى الرئيسية التي يمكن أن تمارس الضغط على الجنرالات السودانيين المنافسين هي السعودية والإمارات ومصر.
ويضيف:” إنهم في وضع يسمح لهم بإحضار هؤلاء الجنرالات إلى طاولة المفاوضات لوقف الصراع باستخدام نفوذهم المالي.”