بقلم جوزيف مسعد
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
بمناسبة الذكرى الثمانين لانتفاضة غيتو وارسو، دعا الرئيس البولندي أندريه دودا، الأسبوع الماضي إلى ضرورة عدم نسيان شجاعة يهود بولندا والبولنديين الذين قاتلوا إلى جانبهم في ذلك الغيتو.
وأضاف: “أولئك الذين قاتلوا في الثورة هم أبطالنا المشتركون.. الذين قاتلوا نيابة عن بولندا الحرة”.
وفي إشارة إلى تواطؤ البولنديين الكاثوليك المعادين للسامية مع النازيين في قتل اليهود البولنديين، صرح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بأن “الخلافات في الرأي بين إسرائيل وبولندا فيما يتعلق بإحياء ذكرى المحرقة لا زالت مستمرة”.
وأضاف: “إن النازيين والمتواطئين معهم كانوا هم الشر المطلق، أما الخير المطلق فقد كان على شاكلة ضحاياهم والمتمردين عليهم من كل الشعوب”.
لا يلغي هذا الخلافُ المتواصل بين الطرفين الدور البارز الذي لعبته بولندا في سرقة وطن الشعب الفلسطيني وإقامة إسرائيل، حيث قامت بولندا بالتصويت لصالح قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في عام 1947.
وعندما نالت بولندا استقلالها في عام 1918، كان نحو ثلث سكانها من الأقليات العرقية والدينية، وبحسب المعايير اللغوية، فقد أحصى تعداد عام 1931 أن 68.9% من السكان بولنديون (بما في ذلك اليهود الناطقون بالبولندية).
ونتيجة قلقها حيال شوفينية القومية الكاثوليكية البولندية، فرضت القوى الغربية عدة فقرات على الدستور البولندي لحماية اليهود والأقليات، كما أجبرت بولندا على التوقيع على معاهدة حماية الأقليات في عام 1919، تحت إشراف عصبة الأمم.
ولم يدعم كثيرون الاستقلال البولندي، فعلى سبيل المثال، وصف الخبير الاقتصادي الشهير جون ماينارد كينز بولندا المستقلة بأنها “مستحيلة من الناحية الاقتصادية، فصناعتها الوحيدة هي كراهية اليهود”.
وفي السنوات القليلة التالية، حكمت بولندا أحزاب يمينية شوفينية ومعادية للأقليات، بمن فيهم اليهود البولنديون.
وفي ظل الوضع الاقتصادي الصعب، أطاح المارشال القومي جوزيف بيلسودسكي بالنظام في عام 1926، إلا أنه تحالف مع نفس القادة اليمينيين الذين أطاح بهم، ولكنه تميز عنهم بشيء واحد فقط هو رفضه لمعاداة السامية.
أصر الحزب اليهودي الاشتراكي البولندي الضخم المناهض للصهيونية “البوند” على أن اليهود مواطنون بولنديون، وأنهم “أوروبيون وليسوا من شعوب الشرق الأوسط، وأن علاقاتهم كانت مع البلدان التي يعيشون فيها وليس بالأرض التي عاش بعض أسلافهم فيها ذات مرة”.
وفي سياق اشتداد المقاومة الفلسطينية للاستعمار الصهيوني في أواخر عشرينيات القرن الماضي، ألقى حزب البوند باللوم على الصهاينة “الذين اقتحموا أرضاً من أجل انتزاعها من سكانها”.
وبعد أن توفي بيلسودسكي في أيار/ مايو 1935، شنّ النظام اليميني الجديد هجوماً على جميع القوى الاشتراكية في البلاد، بما في ذلك حزب البوند، كما تخلى عن رفض بيلسودسكي لمعاداة السامية وقام بتشجيع الحركات المعادية للسامية (بالتزامن مع إصدار النازيين لقوانين نورمبرغ العنصرية).
ومحاكاة للسياسات النازية التي قامت على تحفيز اليهود الألمان أو إجبارهم على الهجرة حتى عام 1938، سرعان ما تبنى البولنديون سياسة مماثلة، حيث كان عدد السكان اليهود في البلاد في تلك الفترة يزيد عن 3.5 ملايين نسمة، بينهم أقل من نصف مليون يهودي من الناطقين بالبولندية، أي نحو 11 % من سكان بولندا.
وقد شكل اليهود ما بين 30 و40 % من سكان وارسو وشكلوا أقليات كبيرة في معظم المدن الأخرى.
ونتيجة لتأثير الأزمة الاقتصادية على المدن أكثر من الريف، طال الفقر نسبة أكبر من اليهود، الذين تحمّلوا، مع اشتداد التمييز المؤسسي ضدهم، عبئاً ضريبياً أكبر، وازدادت الاعتداءات الجسدية على اليهود من قبل العصابات المعادية للسامية في عام 1936.
وكحل لـ “المشكلة اليهودية”، دعت الحكومة البولندية بالتحالف مع الصهاينة إلى هجرة اليهود إلى فلسطين كما فعلت الجماعات البولندية المتطرفة المعادية للسامية، لا سيما حزبا “نارا” و”الديمقراطيون الوطنيون”.
وردا على هذا التحالف أعلن أحد زعماء حزب “البوند” بأن ديفيد بن غوريون، الزعيم اليهودي البولندي للحركة الصهيونية العمالية العالمية، وفلاديمير جابوتنسكي، الزعيم اليهودي الأوكراني للحركة الصهيونية التصحيحية، وإيزاك غرونباوم، الزعيم اليهودي البولندي للحركة الصهيونية العامة الليبرالية، “قد توافقوا مع أعداء اليهود” في دعوتهم اليهود للهجرة.
وكان جابوتنسكي قد بدأ اتصالاته مع نظام ما بعد بيلسودسكي، الذي كان بدوره حريصاً على ترحيل اليهود والضغط على بريطانيا لفتح فلسطين بالكامل أمام الاستعمار اليهودي الأوروبي.
وفي كانون الثاني/ يناير 1938 اقترحت حكومة بولندا عقد مؤتمر حول استعمار اليهود لفلسطين، إضافة إلى “مساعدة اليهود على الهجرة من تلك البلدان حيث كانوا نتيجة أعدادهم الكبيرة عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد القومي، ومساعدتهم على إقامة دولة يهودية إما في فلسطين أو في منطقة أخرى”.
أشاد الصهاينة التصحيحيون بالاقتراح البولندي، بينما كانت المنظمة الصهيونية (والتي أعيد تسميتها فيما بعد بالمنظمة الصهيونية العالمية) قلقة من أن صياغة المشكلة على أنها مشكلة اكتظاظ سكاني يمكن أن تؤدي بالمؤتمر إلى التوصية بإعادة توطين اليهود في أي منطقة ذات كثافة سكانية منخفضة في العالم، وليس في فلسطين حصرياً.
وقد تزامن ذلك مع الثورة الفلسطينية الكبرى المناهضة للاستعمار في الفترة الواقعة بين 1936-1939، والتي أدت إلى انخفاض كبير في عدد المهاجرين اليهود.
وحيث أن العديد من المنظمات اليهودية في تلك الفترة كانت تستكشف إمكانية الاستيطان الاستعماري اليهودي الأوروبي في البيرو ومدغشقر وأنغولا ومنطقة كيمبرلي الأسترالية، فقد أثارت هذه المشاريع قلق المنظمة الصهيونية بشكل كبير.
التقى حاييم وايزمان، زعيم المنظمة الصهيونية في لندن، بوزير الخارجية البولندي بيك في أيلول/ سبتمبر 1937، وقد أكد له الأخير دعم بولندا للصهيونية.
وبحلول شهر أيار/ مايو 1938، أفاد الصهاينة التصحيحيون بأنهم قد أقنعوا البولنديين بأن فلسطين يجب أن تكون الوجهة الوحيدة لليهود المهاجرين.
وسرعان ما وافق حزب المعسكر البولندي المعادي للسامية التابع لحكومة الوحدة الوطنية، والذي حرّض على الهجمات على اليهود، وأعلن أنه نظراً لأن “اليهود البولنديين يشكلون عائقاً أمام التطلعات القومية البولندية”، فإن الحزب يدعم قيام دولة يهودية في فلسطين وأن الأخيرة “يجب الاعتراف بها” باعتبارها الوجهة الرئيسة للهجرة اليهودية.
وقد ابتعث جابوتينسكي روبرت بريسكو، اليهودي الأيرلندي الصهيوني، ليقترح على بيك بأن “يطلب من بريطانيا تسليم صك انتداب فلسطين لبولندا وتحويلها بالفعل إلى مستعمرة بولندية، حيث يمكنهم بعد ذلك نقل كل يهودهم البولنديين غير المرغوب فيهم إلى فلسطين، وستكون لديهم مستعمرة ثرية ومتنامية لمساعدة اقتصادكم”.
ووافق الجيش البولندي على تدريب الصهاينة التصحيحيين المعادين لبريطانيا لتنفيذ خطتهم التي رسموها في عام 1937 لغزو فلسطين، والتي كان من المقرر تنفيذها في عام 1940.
وقد أدى تحالف الصهاينة البولنديين مع المعادين للسامية البولنديين إلى إضعاف مصداقيتهم تماماً بين البولنديين اليهود.
ومنذ عام 1937، كانت بولندا قد بدأت بحث عصبة الأمم على تقسيم فلسطين ومنح الحد الأقصى من أراضيها للمستعمرين اليهود.
وبالفعل، فإن وزارة الخارجية البولندية “كانت مشغولة بتعداد عدد اليهود الذين يمكن أن يتجمعوا في المنطقة اليهودية” من فلسطين المقسّمة، حتى أن بولندا كانت قد “أعلنت عن استعدادها لتولي سلطة الانتداب على فلسطين” كما اقترح جابوتنسكي.
وبحلول أوائل عام 1938، طلب ممثل الحكومة البولندية توسيع منطقة الاستيطان اليهودي لتشمل شرق الأردن.
في أعقاب المذبحة النازية بحق اليهود المعروفة بـ “ليلة تحطيم الزجاج”، صرح ممثل بولندا لدى عصبة الأمم، تيتوس كومارنيكي، أن حكومته على وشك أن تسير على خطى ألمانيا حيث ستضطر إلى “اتخاذ إجراءات قانونية” لتحقيق الهجرة اليهودية.
وقد اتصلت الحكومة البولندية باثنين من اليهود الصهاينة البولنديين البارزين لإنشاء “لجنة شؤون الاستعمار اليهودي”، للضغط على بريطانيا للسماح لليهود البولنديين بالاستيطان في فلسطين.
ورغم ذلك، فقد أيد غالبية اليهود البولنديين حزب البوند المعادي للصهيونية في الانتخابات بين عامي 1936 و1939، مما جعله أكبر حزب يهودي منتخب في جميع المدن الرئيسة، بما فيها مدينة وارسو.
وفي عام 1939، هزم حزب البوند الصهاينة وفاز بنسبة 70% من الأصوات في المناطق اليهودية، أما في وارسو فقد فاز حزب البوند بـ 17 مقعداً من أصل 20، وفاز الصهاينة بمقعد واحد لا غير.
وقبل بضعة أشهر من الاجتياح النازي لبولندا في أيلول/ سبتمبر 1939، تفاوض مناحيم بيغن مع الكابتين رونج، رئيس شرطة الأمن في وارسو، حول إنشاء وحدات يهودية منفصلة تابعة للجيش البولندي، لكن بقيادة ضباط كاثوليك.
وقد كان بيغن ورفاقه التصحيحيون يتطلعون إلى أن يكون هذا التدريب وتجربة الحرب القادمة ذات فائدة كبيرة عندما يقومون بغزو فلسطين في وقت لاحق للإطاحة بالبريطانيين، لكن الخطة فشلت بسبب معارضة حزب البوند الشديدة للفصل العنصري.
وبحلول تموز/ يوليو 1941، اتفق السوفييت والحكومة البولندية في المنفى على السماح لمليون لاجئ بولندي داخل الاتحاد السوفييتي (وكان 400 ألف منهم من اليهود) بتجنيد جيش بولندي تحت إمرة الجيش الأحمر، وتم تشييد مركز تجنيد برئاسة الجنرال البولندي فلاديسلاف آندرز.
وكان اليهود يشكلون 40 إلى 60 % من جميع المتطوعين، مما هيّج قلق الضباط البولنديين المعادين للسامية، بمن فيهم الجنرال آندرز.
وفرّ 3000-4000 جندي يهودي من الجيش البولندي وانضموا إلى المستعمرين الصهاينة، خلال فترة إقامتهم في فلسطين المحتلة بريطانياً في عام 1943.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1941، تمت إعادة إحياء اقتراح بيغن قبل الحرب بخصوص إنشاء وحدات يهودية منفصلة، وتم إنشاء “الفيلق اليهودي” بقيادة الكولونيل البولندي يان غالاديك.
وعندما تم إجلاء الجيش البولندي إلى إيران في آب/ أغسطس 1942، كان يضم 6000 بولندي يهودي من جنود ومدنيين، وكان من بينهم مناحيم بيغن.
وقد انتقل الجيش البولندي، الذي اندمج في حينه مع الجيش الثامن البريطاني، إلى بغداد ثم إلى القدس، قبل أن يعود إلى أوروبا.
أما العقيد غلاديك، فقد شرع في تدريب إرهابيي عصابة الإرغون التابعة للصهاينة التصحيحيين في فلسطين عام 1943.
وبعد أن قام السوفييت بتحرير معسكرات الاعتقال النازية في نهاية الحرب العالمية الثانية، قرر الناجون اليهود من مدينة كيلسيه البولندية العودة إلى ديارهم.
وفي تموز/ يوليو 1946، قام جنود ورجال شرطة ومدنيون بولنديون قوميون بمهاجمتهم وقتلوا 42 من هؤلاء الناجين من المحرقة وجرحوا 40 آخرين، واستمرت المجزرة إلى حين تدخل الجيش الأحمر الذي أوقفها.
وفي الفترة بين شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1944 ونهاية عام 1945، كان قد قُتل 351 يهودياً بولندياً على يد الكاثوليك البولنديين المعادين للسامية، لكن معظم اليهود البولنديين، الذين كانوا قد عادوا إلى ديارهم بعد الحرب، قاموا بالفرار من البلاد بعد مجزرة كيلسيه.
كانت بولندا من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل، وكان دورها في استعمار فلسطين ودعم الصهاينة، شأنه شأن دور بريطانيا وألمانيا، مهماً للغاية.
وكما أن الصهاينة لم يتوانوا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي عن التحالف مع القادة البولنديين المعادين للسامية، فإن إسرائيل ومسؤوليها اليوم يواصلون القيام بذلك وإن كانوا يتقدمون في بعض الأحيان بشكاوى ناعمة ذات صياغة دبلوماسية.
وبدلاً من طمأنة اليهود البولنديين الذين نجوا من المحرقة والترحيب بعودتهم إلى ديارهم، وبأن الحكومة البولندية الجديدة، بخلاف القوميين اليمينيين، ستضمن سلامتهم، تحدث سفير نظام بولندا لدى الأمم المتحدة بعد عام 1947، أوسكار لانغ، الموالي للاتحاد السوفييتي، عن ضرورة دعم السعي الصهيوني لإقامة الدولة اليهودية التي ستحول دون عودة اليهود إلى بولندا.
وقال لانغ: “لقد تابعنا بكل فخر العمل البناء العظيم للجالية اليهودية في فلسطين، لأننا نعلم أن جزءاً كبيراً من هذا المجتمع يتكون من اليهود الذين قدموا من بولندا وكانوا في السابق مواطنين في الجمهورية البولندية”.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فيجدر الكشف عن تاريخ بولندا المعادي للسامية الذي استهدف مواطنيها اليهود أنفسهم، وعن دورها الاستعماري الذي استهدف الشعب الفلسطيني كوجهين لذات الجريمة.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)