بقلم حسام شاكر
تنكشف هشاشة الموقف أحياناً عند المبالغة في استعراض الثقة بالذات ومحاولة إظهار السيطرة على الوضع. إنّه الانطباع الذي تمنحه مسيرة المستوطنين والمتطرفين الإسرائيليين التي جابت البلدة القديمة في القدس يوم الخميس 18 أيار/ مايو 2023 رافعة أعلامها ومرددة هتافات يمينية متطرفة بدعم من قوات الاحتلال ورعاية مباشرة من الحكومة الإسرائيلية.
أُريد من “مسيرة الأعلام” كما هي عادتها السنوية أن تبدو حدثاً كبيراً يوحي بالقوّة والسيطرة، لكنها تكشف في كل عام عن معضلة الاحتلال في القدس. فسلطة الاحتلال تحشد جمهور المستوطنين في هذا اليوم بدعم مسلّح وتنشر لأجل ذلك آلافا من قوّاتها، بلغت 3300 عنصر حسب الإعلانات الرسمية، بينما لا يكفّ أهالي القدس الفلسطينيون عن التظاهر المستمرّ على مدار العام رغم القوّة المسلّحة الإسرائيلية الموجّهة ضدّهم وحملات المطاردة والترهيب والاعتقال والقتل التي تلاحقهم بلا هوادة.
بكلمة أخرى؛ لا تعبِّر المسيرات الاستعراضية التي ترعاها الحكومة الإسرائيلية وسلطات الاحتلال عن واقع القدس الحقيقي على الأرض أو هويتها الحضارية بقدر ما تشير إلى سطوة الاحتلال وغطرسته المُفتعلة وضعف ثقته بالذات أيضاً.
فلماذا تضطر حكومة ما إلى كل هذا الافتعال والحشد الأمني المصاحب له وحجب أهالي القدس الفلسطينيين عن المشهد؛ إن اطمأنّت حقّاً إلى شرعية وجودها واستقرار سيطرتها على “عاصمتها الموحّدة” المزعومة؟
واقع الحال أنّ هوية القدس ما زالت عربية فلسطينية بوضوح رغم أكثر من نصف قرن من التوسّع الاستيطاني والتضييق على حياة المواطنين الفلسطينيين في شرق المدينة والمبالغة في تزييف مشهدها ورفع الأعلام الإسرائيلية بكثافة على المباني المُصادَرة فيها.
يبلغ الاستعراض مداه عندما تقوم سلطات الاحتلال بِحِيَل بصرية في بعض المناسبات بإسقاط أضواء زرقاء وبيضاء على أسوار القدس التاريخية لأجل صبغها بالهوية البصرية الإسرائيلية، لكنّ هذه الحيلة أو غيرها تعجز في اليوم التالي عن حجب الطابع العربي الفلسطيني عن المدينة، وهو طابع حيّ وظاهر داخل الأسوار وخارجها، متشابك إسلامياً ومسيحياً، ولا يحتاج إلى تقنيات محبوكة لإبرازه.
لا تعدو “مسيرة الأعلام” الإسرائيلية أن تكون استعراضاً مفتعلاً لقوّة احتلال، تحشد جمهوراً مشبّعاً بشعارات أسطورية ساذجة. وعند التدقيق في المشهد يتّضح أنّ جمهور “مسيرة الأعلام” يتشكّل في الأساس من مستوطنين متطرِّفين وقع اجتذابهم للعيش في مستوطنات أقيمت بشكل غير شرعي حسب القانون الدولي على أراضٍ مسلوبة من أصحابها الفلسطينيين.
مسيرة تثير مخاوف انفجار الصراع بين الاحتلال والفلسطينيين.. تاريخ مسيرة الأعلام الإسرائيلية واحتمالاتها ودلالاتها | تقرير: ماجد عبد الهادي#الأخبار pic.twitter.com/sfkLbkIc9e
— قناة الجزيرة (@AJArabic) May 18, 2023
تتعاظم التعبيرات الفاشية في صفوف هؤلاء بشكل واضح، من قبيل رفع علم حركة “كاهانا حي” الفاشية المصنّفة على قوائم الإرهاب الأمريكية والأوروبية خلال مسيرة 18 أيار/ مايو 2023. ومن المعتاد أن تُسمَع في مسيرات الأعلام هذه هتافات من قبيل “مافيت لعرفيم” أي: “الموت للعرب!”. يجري تحوير هذا الهتاف العنصري أحياناً إلى “مافيت لحبلانيم” أي: “الموت للإرهابيين!”، ولا حاجة لكثير من الذكاء لاستنتاج أنّ المقصود بهم “العرب” أيضاً؛ أي الشعب الفلسطيني تحديداً الذي تنكر هذه الخطابات العنصرية وجوده من الأساس.
تحظى هذه الحالة الفاشية برعاية رسمية واضحة، حتى أنّ مسيرة 18 أيار/ مايو 2023 تميّزت بأن ضمّت عدّة وزراء في الحكومة الإسرائيلية، هم أكثر وجوهها تطرّفاً على الإطلاق: إيتمار بن غفير وبتسلئيل سوتمريش، وهما يمثِّلان خطّاً فاشياً صريحاً، صار مُهيْمناً على الحياة السياسية الإسرائيلية بمقتضى التوازنات الانتخابية القائمة، ومن المرجّح أن يتعاظم تأثير هؤلاء في جولات الاقتراع المقبلة لأسباب ديموغرافية داخلية وأخرى تعود لتزايد نفوذهم في أجهزة الدولة وسلطاتها.
ظهر في المسيرة أيضاً الوزير يسرائيل كاتس المعروف بسياسات تحفيز الاستيطان وتقديم تسهيلات مغرية للمستوطنين عبر الوزارات المتعددة التي تقلّدها حتى الآن، وهو أحد دعاة ضمّ الضفة الغربية، وتسبّب فوق هذا بأزمات مع حكومات أوروبية عندما أطلق تصريحات ازدراء بحق الشعبين البلجيكي والبولندي.
تعبِّر “مسيرة الأعلام” عن محاولة احتلال القدس معنوياً بعد احتلالها عسكرياً، وهو هدف تتحرّاه الدعاية الإسرائيلية أيضاً؛ من خلال تبرير الاحتلال بالأساطير، كما تفعل أفلام قصيرة ومقاطع ذات طابع دعائي مكرّسة لنفي الصفة العربية الفلسطينية، والإسلامية – المسيحية عن المدينة. اعتادت وزارة الخارجية الإسرائيلية نشر مقاطع دعائية قصيرة من هذا النوع، لتبرير احتلال القدس ومحاولة فرض سرديّتها الساذجة.
تظهر في أحد هذه المقاطع، مثلاً، أسرة إسرائيلية شابّة وظريفة، بطريقة تمثيلية تحاكي كوميديا هوليوود العائلية، تقطن شقّة صغيرة جديدة ترمز إلى مفهوم “الدولة الصغيرة التي يستكثرونها علينا”. سرعان ما يقرع الباب أقوام تلو أقوام يزعمون ملكيّتهم الشقّة، ويأتي آخرهم “العرب” بالطبع مع إيحاءات ازدراء بحقِّهم، ولا حديث عن الفلسطينيين مطلقاً.
على الجمهور العالمي أن يقضي وقتاً ممتعاً مع فنون التضليل المفعمة بالمؤثِّرات، دون أن يحاول تشغيل العقول بأسئلة من قبيل: لماذا لم يصوِّروا الواقع الذي لا يحتاج إلى تمثيل، مثلاً عبر عرض معاناة أسر فلسطينية معمّرة في المكان يقرع بابها مستوطنون قادمون من الولايات المتحدة حُشيت رؤوسهم بأساطير تاريخانية وجيوبهم بأموال سخية؟!
تستثمر الدعاية الإسرائيلية أموالاً طائلة في هذا المجال، لكنّ التضليل لا يربح في نهاية المطاف، خاصة في زمن الصورة والمعايشة الشبكية والبث الحيّ. تأتي من داخل القدس مزيد من المشاهد الأصيلة التي تنقلها الأجهزة الذكية إلى العالم، وتقتدر هذه الوقائع المرئية على زعزعة دعاية الاحتلال الساذجة من أعماقها.
تلفت “مسيرة الأعلام” الانتباه إلى أنّ العلم الإسرائيلي مرفوع في القدس بقوّة السلاح وسطوة القمع وسياسات الاضطهاد المسلّطة على أهالي المدينة، بينما تطارد قوّات الاحتلال أي محاولة لرفع العلم الفلسطيني؛ كما شوهد خلال المسيرة أيضاً. لا يقف فزع سلطات الاحتلال عند حدود العلم الفلسطيني، فهو يمتدّ إلى مطاردة النشاط الثقافي والمدني ومظاهر أخرى من الحياة اليومية، كما تبيّن من اعتداء قوات الاحتلال بشكل همجي على مسيرة تشييع الصحفية الشهيرة شيرين أبو عاقلة في القدس، التي قتلها جنود الجيش الإسرائيلي يوم 11 أيار/ مايو 2022 خلال قيامها بالتغطية الإخبارية.
ذلك أنّ خشية الاحتلال من بروز المشهد الفلسطيني الواقعي من هذه المدينة إلى العالم دفعته إلى مطاردة تابوت الصحفية الذي حملته جماهير القدس بعد خروجه من الكنيسة، حتى كاد أن يهوي أرضاً خلال حضور ممثلي البعثات الدبلوماسية الغربية مراسم التشييع.
من المعتاد رؤية مشاهد الاعتداء والتنكيل والمطاردة بحقّ الفلسطينيين في أحياء القدس، وحتى في المناسبات الدينية والأماكن المقدّسة. جاء من هذه المشاهد مثلاً اعتداء قوات الاحتلال على مصلِّين بينهم نساء وأطفال ورجال دين مسيحيون في طريقهم إلى كنيسة القيامة للاحتفال بسبت النور قبيل عيد الفصح يوم 15 إبريل 2023 بينما تواصلت اعتداءاتها على المصلٍّين في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المتزامن معه.
إنّ فكرة “نحن هنا” التي تريد “مسيرة الأعلام” الإعراب عنها؛ تبدو في حقيقتها برهاناً على العجز الإسرائيلي في القدس، لأنّ المسيرة التي تأتي هذه المرّة بعد 56 سنة من احتلال شرق القدس تبقى مشروطة بفرض إجراءات قهر استثنائية تتعاظم سنة بعد سنة لشلّ الحياة اليومية في المدينة؛ بغرض تورية المواطنين الفلسطينيين عن المشهد ببساطة.
خلال مسيرة 18 أيار/ مايو 2023 اعتدت قوات الاحتلال بالضرب على المواطنين الفلسطينيين قرب باب العامود، كبرى بوابات القدس التاريخية، ونكلّت بهم داخل البلدة القديمة لدفعهم إلى الاختفاء من المنطقة بالقوّة كي يبقى المشهد الدعائي إسرائيلياً بالكامل، ويبقى هذا “إجراءً روتينياً” على أي حال. أظهر المستوطنون والمتطرفون سلوكاً استفزازياً خلال تحرّكهم بمعيّة قوات الاحتلال في أزقّة القدس واحتكّوا بمن في طريقهم من الفلسطينيين الذين شوهدوا عند الأبواب والنوافذ، وتدخّلت قوات الاحتلال لقمع الفلسطينيين لصالح جمهورها كلما نشب عراك في الطريق.
حاولت المسيرة إظهار الثقة البالغة بالنفس لكنّ حقيقة الافتعال الزائف انكشفت كلّما ظهر علم فلسطيني صغير في طريقها أو ارتفع محلِّقاً في الأجواء عبر منفوخة هوائية أطلقها طفل مقدسي. تندفع قوات الاحتلال إلى خنق إشارات الحياة هذه التي يؤكِّد من خلالها أهالي القدس المُضطهَدون: “نحن هنا”.
حاولت “مسيرة الأعلام” صناعة صورة ملحمية زائفة، بينما يواصل الفلسطينيون التشبّث بمدينتهم وأحيائهم السكنية المهدّدة بالإخلاء القسري، كما شاهد العالم أجمع في حي الشيخ جرّاح أو في قرية الخان الأحمر المهمّشة والمحرومة من مقوِّمات الحياة الأساسية.
أمّا حشود المستوطنين هذه فما جاءت إلى القدس إلاّ تحت رعاية رسمية من نظام احتلال يمنحها امتيازات اقتصادية سخية ومرافقة أمنية مشددة وقطع سلاح يحملونها ليلاً ونهاراً؛ على أمل أن يأتي هؤلاء إلى المدينة وعموم الضفة الغربية المحتلّة ويستقرّون فيها بخلاف القانون الدولي.
أيّ معنى إذن لمسيرات استعراضية لا تتطلّب تضحيات، يقوم بها جمهور المستوطنين والمتطرفين بدعم كثيف واستثنائي من قوات الاحتلال؛ التي تقوم خلال ذلك باعتقالات وإجراءات قمعية وقيود مشدّدة ضد أهالي القدس كي تفتعل المشهد الزائف الذي ترغب به؟ وحدهم الفلسطينيون في القدس مَن يواصلون الملحمة الجماهيرية منذ عقود مديدة، ويواجهون تنكيلاً متواصلاً من قوات الاحتلال، ويدفعون أثمان ذلك من حريّتهم وأرواحهم.
ثمّة مسيرة أعلام أصيلة في القدس تستحقّ المساندة من العالم أجمع؛ هي تلك الملحمة الجماهيرية التي يخوضها أهالي المدينة الفلسطينيون العُزّل تحت الاحتلال للمطالبة بالحرية والحقوق والعدالة، رغم التضحيات والمخاطر التي يواجهونها.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)