بقلم عمر الفاروق
ترجمة وتحرير مريم الحمد
يتذكر الفلسطيني اللاجئ حسن حمامي، الذي يسكن فلوريدا في الولايات المتحدة اليوم، نشأته في يافا التي كانت يوماً مركزاً صناعياً وثقافياً مزدهراً وكانت تُعرف بعروس البحر، ولكن ذاكرته مزيج بين المشاهد المبهجة والصادمة في الوقت نفسه، فعندما يسأله أحد عن سنوات مراهقته، يمر شريط الذكريات أمام عينيه بمشاهد ممزوجة بين الصدمة والفرح والألم!
يافا،، قلب فلسطين النابض،،
مبانيها تخبرك عن حكايات الأجداد،،
وتلمح عبر شوارعها العتيقة ذكريات قديمة ،،
عن ملامح العربي،، ابن يافا المثقف، والطبيب والتاجر والفلاح الأصيل ،،
تبحث عنهم بين الأطلال،،
عن ملامح من غابوا بين مخيمات اللجوء ،،فلسطين 🇵🇸#فلسطين pic.twitter.com/9RS2gWF8CJ
— ali salameh (@aliss19581988) February 20, 2023
لا يتذكر حمامي كل التفاصيل، لكنه يذكر تهجير عائلته على أيدي الميليشيات الصهيونية، ويعتبر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كابوساً يتكرر كلما استيقظ الطفل الموجود بداخل الرجل البالغ من العمر 90 عاماً اليوم!
بعد النزوح، سافر حمامي إلى أكثر من 20 دولة، وتزوج زواجاً طويلاً مرضياً، وصعد في سلم الوظيفة في شركة بروكتر آند جامبل الأمريكية والتي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، فهو اليوم عندما ينظر إلى الوراء يشعر بالامتنان للحياة الطويلة الغنية التي عاشها، لكن شيئاً ما كان دائماً ناقصاً، فرغم تجارته بكل شيء في فلوريدا، إلا أنه يتمنى لو عادت يافا حرة لذهب إليها على الفور.
اعتقدت العائلة أن وجودها خارج يافا سيكون مؤقتاً، لكن يافا أصبحت تل أبيب بعد قيام دولة إسرائيل، ولم تعد ملامح يافا كما يعرفونها
كانت النكبة بالنسبة للفلسطينيين مثل حمامي هي بداية 75 عاماً في المنفى وصراعاً طويلاً بانتظار قيام الدولة المستقلة، فالنكبة هي الصدمة الدائمة لكل لاجئ فلسطيني، لم تتوقف إلى اليوم، فقد كان عمر حمامي 15 عاماً عندما وقعت النكبة، ولذلك ما زال يتذكر مشاهد محددة أثرت في حياته الشخصية ولم يتمكن من نسيانها مع الزمن، كان أكثرها صعوبة هو عدم القدرة على إقامة علاقات أسرية طبيعية مع الإخوة والأقارب نتيجة التمزق في الشتات، ما زالت غصة العائلة في قلبه حتى اليوم، فهو يأسف لحقيقة أن عائلته الكبيرة مبعثرة في أنحاء مختلفة من العالم!
طفولة رائعة في يافا!
يتذكر حمامي طفولته في يافا بشيء من البهجة، حيث كان المجتمع متجانساً رغم اختلاف الديانات والخلفيات الفكرية، وكان منزل حمامي قريباً من شاطئ البحر، الذي تعلم فيه السباحة وكان يقضي فيه الكثير من أيام الصيف، ويذكر أنه حصل على أول دراجة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي إحدى جولاته، مر ببؤرة استيطانية اسمها “حولون” جنوب شرق يافا، كانت من المفترض أن تكون زراعية لكن لم يكن فيها حتى شجرة، أصبحت اليوم ثاني أكبر منطقة صناعية في إسرائيل.
الكارثة
قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948، كان الفلسطينيون يعيشون تحت حكم الانتداب البريطاني في الفترة بين 1920-1948، وهي فترة طفولة حمامي، وفي السنوات الأخيرة قبل النكبة، كان الوضع الاقتصادي والسياسي يزداد سوءاً في يافا وغيرها من مدن فلسطين، فقد كثفت الميليشيات الصهيونية من هجماتها على القرى والبلدات الفلسطينية، فيما هم البريطانيون بالرحيل ومغادرة البلاد.
قررت عائلة حمامي الرحيل تحت ضغط المذابح التي كانت قريبة من يافا، وتنذر بالاقتراب منها، أشهرها مجزرة دير ياسين، البلدة الواقعة بين يافا والقدس، في 9 أبريل عام 1948، التي قتل فيها الصهاينة مئات الفلسطينيين بينهم أطفال ونساء.
كانت الأرض الفلسطينية تنكمش يوماً بعد يوم لصالح المزيد من المستوطنات، وانكمش معها أمل العودة الذي كان يحمله اللاجئ.
قرر والد حمامي الرحيل قبل أن تصلهم أيدي الصهاينة، فحجز تذاكر على متن قارب إلى لبنان، ولكن عندما وصلوا ميناء يافا، كان هناك مستوطنون يقذفون السفن القادمة، الأمر الذي أجبر السفينة على التحرك بعيداً في البحر بدلاً من الرسو بالقرب من الشاطئ، فقد كان هناك الناس ممن ينتظرون الفرصة لمغادرة الميناء، وكانت عائلة ممن ينتظرون الفرصة، جمعوا كل متعلقاتهم ومجوهراتهم ونقودهم استعداداً للسفر.
في رحلة القارب، كانوا مثل “السردين” كما وصفه حمامي، فقد كان هناك أكثر من 3 آلاف شخص على متن القارب، يجلسون أو يقفون كتفاً بكتف في رحلة كان من المفترض أن مدتها 12 ساعة، لكنها استغرقت 3 أيام، مما أدى إلى نفاد مياه الشرب معهم، في رحلة عسيرة انتهت في ميناء صيدا اللبنانية، حيث بدؤوا حياتهم الجديدة كلاجئين.
في البداية، اعتقدت العائلة أن وجودها خارج يافا سيكون مؤقتاً، لكن يافا أصبحت تل أبيب بعد قيام دولة إسرائيل، ولم تعد ملامح يافا كما يعرفونها، وهذه كانت ما أسماها حمامي “الكارثة”، فقد ذهبت طفولته الرائعة وصار لاجئاً!
في الوقت الذي كان العالم ينظر فيه دون تحريك ساكن، كانت الأرض الفلسطينية تنكمش يوماً بعد يوم لصالح المزيد من المستوطنات، وانكمش معها أمل العودة الذي كان يحمله اللاجئ، فيظن أنه سيعود بعد أسابيع أو أشهر على أكثر تقدير، وأن العالم سيتدخل ليوقف المجازر، لكن ذلك لم يكن الواقع!
بدأ حمامي حياته المهنية كمترجم في السعودية في شركة النفط الشهيرة أرامكو، ثم ذهب للدراسة في بريطانيا لاحقاً، وهناك التقى بزوجته الأولى باربرا، ثم شق طريقه إلى الولايات المتحدة وحصل على وظيفة في الشركة الأمريكيةProcter & Gamble ، ومن بعدها الجنسية الأمريكية.
أبناء حمامي يعيشون اليوم في أكثر من بلد حول العالم، فابنته الكبرى في فرنسا وله بنت أخرى في فلسطين فيما تعيش الصغيرة في ولاية أمريكية أخرى، أما إخوته الثمانية، فيعيش معظمهم في ولايات أمريكية مختلفة، وواحد في الأردن، والبعض في منطقة الخليج.
“لقد كنا هناك”
يعيش حمامي في سن 90 حياة نشطة، يقضي وقته بين القراءة والكتابة والتحدث في المناسبات والمساعدة في التنظيم والدعوة لفلسطين في فلوريدا، يلعب الرياضة كل يوم، وفي منزله الساحلي العديد من التحف والقطع التذكارية من أسفاره، يتخللها خرائط ولوحات لفلسطين ورفوف مليئة بالكتب عن وطنه، فقد كان أحد أهدافه بعد التقاعد جمع أكبر عدد ممكن من الكتب عن فلسطين ليهبها لأصدقائه ومعارفه.
يريد حمامي للجميع أن يعرفوا عن تاريخ وطنه، من خلال الكتب بالإضافة إلى المجلدات الالكترونية عبر الكمبيوتر، وعند تذكر النزوح يتنهد حمامي بين الأمل والحزن، ويقضي أيامه في محاولة لإبقاء فلسطين متقدة في ذاكرته، والتأكد من أن قصته وقصة كل من عانوا مسموعة.
يقول حمامي “رقم هاتفي في منزلنا في يافا هو 1109، أحتفظ به حتى اليوم، وأقول لأي شخص يقول أنه لم يكن هناك شعب متحضر، لقد كنا هناك”!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)