فيلم “حرقة” التونسي.. أحلام شباب مقهور في ربيع عربي مجهول

بقلم أحمد الدردير

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

بعد عقد من الربيع العربي، يصور فيلم “حرقة” رغبة علي، الذي يلعب دوره النجم الفرنسي التونسي آدم بيسا، في الهجرة من تونس إلى أوروبا.

يعكس عنوان الفيلم الغضب واليأس اللذين يتملكان علي ويلتهمانه من الداخل كالنيران، لرغبته الشديدة في حياة أفضل له ولأخواته محاولاً تخطي المصاعب والمخاطر كما لو كان يلعب بالنار.

ومع تلاشي آمال وأحلام ثورات الربيع العربي التي انطلقت في عام 2011، يقدم علي على التضحية بنفسه، فيما يُذكّر بفعل محمد البوعزيزي، الذي أضرم في نفسه النار عام 2010 مما أدى لنشوب ثورة في تونس، تلتها أخرى في مصر بعد شهر.

يتخلل فيلم “حرقة” إشارات سمعية وبصرية وسردية تعيدنا إلى ثورات الربيع العربي.

البوعزيزي كان بائع متجول يبلغ من العمر 26 عامًا، وعقب إشعاله النيران في جسده، طبقت الحكومة التونسية بصرامة التشريعات التي تحظر البيع غير المرخص للبنزين، وانبثقت من هذا الحظر سوق سوداء للوقود المهرب.

وفي محاكاة لذلك، تظهر سلطات إنفاذ القانون وهي تتخذ اقتطاعات يومية من محتكري البنزين في الفيلم.

وبقليل من التعليم وانعدام الحظ، يصبح علي، ذلك الطموح الغاضب، مهربًا لإحدى شبكات تهريب البنزين.

وهكذا يصبح نضال علي نموذجًا مصغرًا للنضالات الاجتماعية للتونسيين في أعقاب ربيع 2011، فقد توقف التصوير في الواقع بسبب احتجاجات حقيقية رداً على استيلاء قيس سعيد على السلطة، وأصبحت لقطات من هذه التظاهرات جزءًا من الفيلم، مما أضاف إليه تأثيرًا واقعيًا ومشؤومًا في نفس الوقت.

نار علي

يتألق بيسا في تصويره لرجل يحترق من الإحباط، والغضب، والأمل، واليأس، حيث تتطابق مهارة الممثل مع استخدام الفيلم المحترف للمغزى الرئيسي وراءه وهو رمزية استخدام “النار”.

فالنار موجودة في التقارير الإخبارية التي لا تزال تشير إلى تضحيات البوعزيزي، وفي الإشارات اللفظية التي تشير إلى علي الذي “أراد أن يحترق” في إشارة إلى رغبته في الهجرة التي تنذر بالنهاية المأساوية للفيلم.

كما كان رمز النار حاضراً من خلال فيض البنزين، لدرجة أن أخته تستطيع شم رائحته عليه، في دلالة على أن وضع علي المزري كرجل ينتمي للطبقة العاملة يجعله يحمل في جسده رائحة المادة التي ستحرقه.

كما تظهر فكرة الاحتراق في تدخين علي بكثافة وفي الدخان الذي يحيط بجسده في المشاهد الأولى للفيلم، وأيضًا في سيجارته غير المشتعلة وهو يقف أمام مبنى البلدية، حيث يحذره موظف من التدخين في المكان، وهو ذاته ذلك المكان الذي سيضرم علي بنفسه النار فيه لاحقًا.

وبعد وفاة والده، عاد علي إلى منزل عائلته، ليكتشف أن البنك على وشك الاستحواذ عليه لسداد ديون والده.

وفي محاولة يائسة لإيجاد حل سريع، يغامر علي في عمق السوق السوداء للبنزين ويصبح مهربًا، وهذا يمكّنه من جني أموال إضافية، ولكن ليس بما يكفي لإنقاذ المنزل.

يتصاعد يأس علي، وكذلك غضبه على البنك وعلى رئيسه الذي يرفض أن يدفع له المبلغ الذي تم الاتفاق عليه، وعلى عناصر الشرطة والرشاوى التي يجمعونها، على السلطات التي تغلق الفرص القانونية وتدفعه إلى ممارسة نشاط غير قانوني حيث يصبح أشخاص مثله غير محميين، وكذلك غضبه على نفسه لعدم قدرته على حماية وإعالة أخواته.

على الرغم من عدم إمكانية تصنيف الفيلم ببساطة على أنه سينما موجهة للطبقة العاملة، فهو في نهاية المطاف فيلم تجاري مخصص أساسًا لجمهور برجوازي دولي نسبيًا وللمهرجانات الدولية، رغم أنه ليس بورجوازيًا أيضاً.

من الواضح أن الفيلم يركز على منظور الفقراء في المناطق الحضرية، وهو يفرض بنجاح وجهة النظر هذه بدلاً من تقديم الأعذار من أجلها، وبينما يشجع الفيلم المشاهد على التعاطف مع علي، إلا أنه يظل غير مؤهل للعين البرجوازية.

قد نتعاطف مع مثابرته في وجه المحن والمخاطر، لكن الفيلم لا يهتم بجعل علي محطاً للتعاطف.

أحيانًا يبدو علي وكأنه لا يستطيع تحمل نفسه، أو أنه يتعامل مع وجوده باعتباره عبئًا على نفسه والآخرين.

تضيف رواية الفيلم، بصوت أخت علي الصغرى، أليسا (الممثلة سليمة معتوق)، عنصر “الأسطورة” إلى مطالب علي، وهو ما لا يجعل علي ذلك المجاهد الجانح البطل الأسطوري فقط، بل يجعلنا نتعاطف مع ذلك البطل وهو يهبط إلى مستنقع التهريب و الفشل.

العبث النهائي

ربما احتاج فيلم “حرقة” إلى بعض التفاصيل الإضافية لدفع الأحداث إلى ما هو أبعد من ذلك، فانفجار بطل الرواية في غضب خادع للذات، على الرغم من أنه متفهم ومتنبأ به من خلال استحضار مثال البوعزيزي، إلا أنه بدا سريعاً، وتم احتواؤه في بضع دقائق قرب نهاية الفيلم.

ربما كانت هذه هي رسالة الفيلم: أنه يمكن الشعور بنيران علي تلتهمه من الداخل وهي تكبر شيئاً فشيئاً، لكن لا يمكن مشاهدتها على أرض الواقع إلا في لحظة ثورانها فقط.

قد نتساءل أيضًا لماذا أحرق علي نفسه في وقت بدا فيه وكأنه وجد حلاً، وإن كان مؤقتًا، لمشاكل أخواته، فقد وجدت الأسرة مسكنًا مؤقتًا وكان علي قادرًا على إعطائهن المال الذي كان يحاول في البداية أن يؤمنه لإنقاذ المنزل.

لكن ربما اختار علي، الذي كانت لديه ميول انتحارية طوال الفيلم، الرحيل في الوقت الذي ملكت فيه أخواته الوسائل التي تمكنهن من تدبر أمورهن حتى يتوصلن إلى كيفية العيش بدونه.

هل كان ذلك قراراً مع سبق الإصرار لتخليص نفسه والآخرين من وجوده، أم مجرد لحظة تفجر الغضب؟ يترك الفيلم السؤال دون إجابة ويترك معه التفكر فيما إذا كانت تضحيات علي تعكس فعل يأس فردي أم احتجاج سياسي.

التضحية بالنفس تطمس الخطوط الفاصلة بين ما هو شخصي وسياسي، فالجسد الذي يخضع للسيطرة الاجتماعية والسياسية وللجوع هو نفسه الجسد الذي ينفجر احتجاجًا، وبغض النظر عن نوايا علي الحقيقية، فلا يوجد خط يفصل بين الجسدين الشخصي الاجتماعي.

لكن هنا تكمن المأساة الرئيسية للفيلم، ففي حين أن فعل البوعزيزي ألهم انتفاضة ليس فقط في تونس، ولكن أيضًا في مصر وفي جميع أنحاء العالم العربي، فإن تضحية علي لم تلهم شيئًا، ففي المشهد الأخير، يمشي الناس من أمامه بلا مبالاة بينما جسده يحترق.

ربما أعاد علي تمثيل المشهد الذي أشعل شرارة ثورات 2010-2011، وربما كان مستوحى من نفس الغضب والإحباطات التي دفعت البوعزيزي لإضرام النار في جسده، لكن لا توجد ثورة في الأفق.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة