جريمة أنسي ومأزق وصم الاعتداءات بالإرهاب

بقلم حسام شاكر

ظهر قرب البحيرة الهادئة بملابس عربية اختطفت الأنظار، استلّ سكِّينه فجأة وباشر الهرولة، طارد مجموعة من الأطفال الصغار في حديقة عامّة واستهدفهم بطعنات أوقعت جرحى. تدخّل شاب شجاع ونجح في إعاقة المهاجم عن مواصلة الفتك الوحشي بالأبرياء.

كان يُفترض بالاعتداء الجبان الذي روّع مدينة أنسي الواقعة في الشرق الفرنسي أن يُصنّف، بلا تردّد، على أنّه “عمل إرهابي”، استناداً إلى خبرات سابقة مع اعتداءات هوْجاء اقترفها أشخاص ليسوا محسوبين على الانتماء الفرنسي أو الأوروبي. اشتمل مشهد الطعن الذي وثّقه مقطع مرئي على “قرائن” نمطية؛ كان من شأنها أن تستحضر تصنيف الإرهاب بلا تردّد؛ فالشاب “ذو ملامح شرق أوسطية” واضحة، ثمّ إنّه يعتمر كوفية عربية لفّها حول رأسه، علاوة على أنّه مُلتحٍ.

لم تشفع هذه “القرائن” جميعها لتصنيف الهجوم البشع الذي جرى في الثامن من يونيو/ حزيران 2023 ضمن فئة الاعتداءات الإرهابية، بخلاف أحكام متسرِّعة أُلصقت بهجمات طعن وذبح ودهس جرت فوق التراب الفرنسي تضمّنت “قرائن” شبيهة. يثور الاشتباه بأنّ علّة الأمر تكمن في أنّ المنفِّذ في واقعة أنسي لم يُطلِق لسانه بالتكبير، بل كان يحمل الإنجيل، وأقدم على فعلته – زعماً – “باسم المسيح” عليه السلام حسب هتاف أطلقه، وشوهد الصليب يتدلّى من عنقه أيضاً. تعطّلت الرواية النمطية بسبب هذه الجزئية تحديداً على ما يبدو، فسارعت النائبة العامّة الفرنسية إلى نفي خلفية الإرهاب عن عملية الطعن الجماعي هذه تحديداً، كما أحجمت التصريحات المتدفِّقة على وقع الصدمة والذهول عن استعمال لفظة الإرهاب بحقّ المعتدي المسمّى “عبد المسيح”، رغم أنّ بعض المتحدِّثين استسهلوا استدعاء الوصمة في التعليق على وقائع شبيهة من قبل.

أوقعت هذه الجريمة البشعة جمهرة المسؤولين والمعلِّقين في مأزق حَرِج، إذ لم يجدوا في جعبتهم اللفظية ما يُقابل وصمة “الإرهاب الإسلامي” بعد أن أظهر الفاعل دافعاً دينياً مُغايراً حرّضه – كما يقول – على اقتراف عملية الطعن الجماعي. وهل يقوى المسؤولون الفرنسيون أو غيرهم الذين اعتادوا على استحضار تلك الوصمة مع هجمات محسوبة على معتدين مسلمين؛ على استعمال وصف “إرهاب مسيحي” في هذه الحالة (وهو إن حصَل سيكون وصفاً جائراً إذ يُقرن المسيح عليه السلام بنعت ذميم)؟!

ولأنّ الاعتداء الوحشي ليس إرهاباً هذه المرّة، فقد تعيّن على الأنظار أن تنصرف إلى بلد النشأة لا إلى الخلفية الدينية الظاهرة من صيْحته المسموعة وقلادته الظاهرة وكتابه المقدّس. يكفي أنّه لاجئ سوري لوصم اللاجئين جميعاً بصفة صريحة أو إيحائية بأنهم مصدر الشرور والتهديدات، وبلغت المزايدات التي تعالت في المنابر الفرنسية بعيد الاعتداء حدّ نعت اللاجئين عموماً بأنهم يُمارسون “الإبادة بحقّ الفرنسيين”، حسب تعبير مرشّح الرئاسة المتطرف إريك زمور. واختمر التوافق الضمني بين النخبة الفرنسية المتصدِّرة، بالتالي، على أنّ الأمر يُملي على الجمهورية أن تتصرّف بلا هوادة لتشديد سُبل وصول اللاجئين إلى التراب الفرنسي.

يقضي استبعاد وصمة الإرهاب بحقّ مقترفي الاعتداءات بإحالة الدوافع إلى أسباب نفسية واجتماعية معيّنة، أي عبر تفسير السلوك العدواني الذي أقدم عليه أحدهم من خلال نطاقه الشخصي حصراً دون تعميم الجرم عبر نسج تأويلات ثقافية أو دينية معيّنة لما اقترفه. يجري سلوك الحصر ضمن الدائرة الشخصية، عادة، مع مقترفي أعمال قتل جماعية يُحسَبون على مجتمع الأغلبية؛ في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية والغربية. أمّا إن اتّضحت صلة المعتدي بمكوِّن مجتمعي يطارده اشتباه تعميمي مُسبق؛ فإنّ وصمة الإرهاب قد تُستلّ سريعاً في البلاغات والتصريحات بلا تحفّظات أو استدراكات. يكفي في هذه الحالات، غالباً، أن يصيح أحدهم: “الله أكبر”، أو أن يحمل مصحفاً في جيْبه، أو أن يُشتبه بأنّه ارتاد مسجداً من قبل. تغيب في هذا السياق، غالباً، أيّ إشارات إلى متاعب نفسية أو أزمات اجتماعية أو مشاعر غُبن محتملة قد تكون حرّضت المعتدي على اقتراف فعلته الشنيعة، بخلاف ما يُقال في حالات شبيهة يكون الجناة فيها من مجتمع الأغلبية.

لا يخفى أنّ وصمة “الإرهاب الإسلامي” صارت من تقاليد الاستعمال السياسي في البيئة الفرنسية التي تواصل انزلاقها نحو أقصى اليمين، وإن تحاشت الحكومات في بلدان أوروبية أخرى استعمال المصطلح. ثمّة متلازمات لفظية أخرى تُستحضر أيضاً؛ مثل “التطرّف الإسلامي” و”الانفصالية الإسلامية” و”الإسلام السياسي”؛ وهذه وشبيهاتها تبدو في دلالاتها الفضفاضة قابلة للتنزيل على أوساط واسعة نسبياً من المسلمين وتجمّعاتهم ومؤسّساتهم.

من إشكاليات استدعاء “الإسلام” في هذه النعوت الذميمة أنّها تُلقي بحمولة معنوية ثقيلة على كاهل ملايين المسلمين في فرنسا، وبدرجات معيّنة على المسلمين في أوروبا وخارجها أيضاً. ذلك أنّ الإشارة إلى وجود خلفية “إسلامية” وراء اعتداءات وفظائع وأعمال ترويع؛ كفيلة بأن تحمل دلالة صريحة أو رمزية بأنّ المسلمين عموماً يتقاسمون حصّة محتملة من المسؤولية عمّا اقترفه أفراد معدودون طالما أنّهم يتقاسمون الخلفية ذاتها.

استدرج هذا العِبء المعنوي كثيراً من مؤسّسات المسلمين ومراكزهم في البيئات الأوروبية والغربية وحول العالم، إلى الإفراط في إصدار بيانات الاستنكار والإدانة والتبرُّؤ من هذه الأفعال منذ بواكير القرن الحادي والعشرين، أو منذ تاريخ 11 سبتمبر/ أيلول 2001 تحديداً. أوحت هذه المواقف أحياناً بنزعة دفاعية في مواجهة حمّى الوصم، أو عبّرت عن منحى اعتذاري نحو مجتمع الأغلبية الذي تُثار فيه شكوك مُحفّزة ضد المكوِّن المجتمعي المسلم. وفي بعض الحالات وجّهت أطراف سياسية إملاءات واضحة إلى المسلمين بالتبرؤ من هذه الاعتداءات والتظاهر ضدّها؛ وكأنّ كلّ مواقف الاستنكار والتنديد والنبذ لم تكن كافية أو مسموعة. لهذه الإملاءات معناها في تكريس الاشتباه التعميمي بالمسلمين بأنّهم متواطئون مع الاعتداءات أو مشكوك في التزامهم بأمن مجتمعاتهم وبلدانهم الأوروبية، ومن شأنها أن تشدِّد الضغوط المعنوية على المكوِّن المجتمعي المسلم وتحمِّله إجمالاً قسطاً من المسؤولية عمّا يقترفه فرد أرعن، بخلاف ما يجري مع مكوِّنات مجتمعية أخرى محسوبة على الأغلبية. جرى هذا بينما علت خطابات التشويه والتحريض والعنصرية ضد المسلمين وتجمّعاتهم في بيئات أوروبية عدّة، وتورّط فيها كبار السياسيين وصانعي القرار وجوقة من النخب المتصدِّرة أحياناً، ما حفّز اعتداءات مادية ولفظية لا تُحصى على المساجد والمسلمين ومرافقهم الاجتماعية والثقافية ومقابرهم أيضاً؛ أوقعت ضحايا في حالات عدّة، دون تصنيفها بالإرهاب ومتلازماته الاصطلاحية غالباً.

ورغم أنّ وَصم هجمات يمينية متطرِّفة بالإرهاب يحصل أحياناُ في بعض الحالات؛ إلاّ أنّ ذلك يأتي متأنِّياً على الأغلب ولا يشمل تلك الهجمات جميعاً، ما يعزِّز الاستنتاج بأنّ وصمة الإرهاب يحظى بها المعتدي بصفة أسرع وأيسر إن عُدّ مسلماً، حتى إنْ فاحت رائحة الخمر من جوْفه أو عُرف عنه تعاطي المخدرات والانحراف السلوكي والاضطراب النفسي.

سلّط اعتداء أنسي الأضواء على ظاهرة التأويل الانتقائي لدوافع الاعتداءات في أوروبا، وعلى تحيّزات الرواية الرائجة بشأنها. وفيرة هي الشواهد الكاشفة لهذا الاضطراب؛ منها واقعة اعتداء مسلّح هزّ مدينة ميونيخ الألمانية، يوم 22 يوليو/ تموز 2016. أقدم فتى يميني متطرِّف يومها على اقتراف مذبحة في “مركز أولمبيا” للتسوّق، قتل فيها بسلاحه سبعة مسلمين بينهم أطفال، واثنين من الغجر، علاوة على وقوع عشرات الإصابات بسبب فرار المتسوِّقين في حالة من الهلع. لم يكن هذا كافياً لنعت الفاعل بالإرهابي، فقد غابت أيّ إشارة إلى “الإرهاب” في التعليق على المذبحة الصادمة، بل إنّ السلطات صنّفتها عملاً “بلا خلفية سياسية” رغم الأمارات الجليّة على دوافع الجاني العنصرية وتطرّفه السياسي الموثّق في المضبوطات. ارتبكت التغطيات الإعلامية وتعليقات المسؤولين في ميونيخ وعموم ألمانيا خلال مواكبة الحدث المديد وبعده، وحاول القوم فحص هتاف المهاجم أمام الكاميرات في مسرح المذبحة دون أن تتسلّل إلى أسماعهم صيحة “الله أكبر” التي تحفّز بعضهم لسماعها ربّما. لا عجب، بالتالي، أن بلغ سلوك التأنِّي في التصنيف مبلغه في هذه الحالة؛ حتى أنّ السلطات الأمنية لم تعترف بوجود دوافع سياسية خلف المذبحة إلاّ بعد مضيّ سنوات ثلاث، وجاء ذلك بعد سنة من تصنيف محكمة ولاية بايرن (بافاريا) هذا الاعتداء الدامي ضمن سلسلة الهجمات اليمينية المتطرفة. إنّها الولاية المحافظة التي يسيطر حزب “الاتحاد المسيحي الاجتماعي” بشكل تقليدي على الحُكم فيها، والحزب معروف بخطِّه اليميني وبخطابه غير الودود نحو المسلمين واللاجئين.

تجود ألمانيا بأمثلة أخرى على ارتباك التصنيف؛ منها إقدام شاب يُدعى أندرياس لوبيتس على عملية قتل جماعي محبوكة في الأجواء. هوى لوبيتس بطائرة “جيرمان وينغز” يوم 24 مارس/ آذار 2015 بعد أن استأثر مساعد الطيّار هذا بقمرة القيادة. صارت رحلة رقم 9525 التي أقلعت من برشلونة الإسبانية صوْب دسلدورف الألمانية عنواناً على واحدة من أبشع وقائع القتل الجماعي في أوروبا بالطائرات المدنية. سيطر لوبيتس على الوجهة ودفع بالطائرة إلى الارتطام بجبال الألب الفرنسية بعد أن بيّت نيّة الإجهاز على ركّابها المائة والخمسين الذين لم يخرج أيّ ناجٍ من بينهم. خيّمت الصدمة والذهول على ألمانيا وأوروبا بعد الواقعة المروِّعة، لكنّ عملية القتل الجماعي بقيت في الخطابات الرسمية والمداولات الإعلامية مجرّد “حادث” مدبّر، وغاب منحى الذمّ التقليدي بحقّ الفاعل لصالح التركيز على متاعب ألمّت به حرّضته على الإقدام على هذه الفعلة بعد قنوطه من الحياة. لكن هل كان للأمر أن ينضبط بهذا الإيقاع إن حمل أندرياس اسم محمد أو سعيد؟ وهل ستحتفظ رواية الأزمة النفسية بحضورها إن وُجد مصحف بين مقتنياته مثلاً؟

تتضافر الشواهد على تناقضات التصنيف، ما يمنح انطباعاً مشروعاً بأنّ استسهال الإقدام على نعت واقعة معيّنة بالإرهاب؛ أو الإحجام عن ذلك إزاء واقعة أخرى؛ يتأثّران بهويّة الجاني وبهويّات الضحايا أيضاً. ما يعني، بكلمة أخرى، أنّه من السهل أن يُعدّ المعتدي “إرهابياً” إن بدا من المسلمين أو حُسِب عليهم، وأن يُلتفت إلى متاعبه الشخصية ومآزقه الذاتية وقنوطه من الحياة إن لم يكن منهم.

مقالات ذات صلة