بقلم ديفيد هيرست
سمها ما شئت، سواء كانت تدريباً على العمل أو خبرة في العمل مع الزمن، لكن مما لاشك فيه أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قد بدأ التعلم من أخطائه، ولا أريد أن يُساء فهمي هنا، فهو إن كان بإمكانه قتل جمال خاشقجي آخر والإفلات من المحاسبة، فإنه لن يتردد عن القيام بذلك، وإذا ما تمكن من إيجاد طريقة لسحق الحوثيين في اليمن بضربة واحدة، فلن يتردد أيضاً.
أول الدروس هي أنه لا يمكن الوثوق بالولايات المتحدة، ولا يمكن للمملكة الاعتماد على واشنطن من أجل حمايتها
كل ما في الأمر أنه تعلم بالطريقة الصعبة أن كلا الأمرين أخطاء مكلفة إن صح التعبير، فالشاب الذي تجول في الرياض ممسكاً بنسخة من كتاب “الأمير” لميكافيلي لا يزال هو نفسه، بلاوازع أو مبادئ، خاصة وأنه يعلم أن الشيء الوحيد الذي قد يمنعه من أن يكون الحاكم المطلق في المملكة هو رصاصة في رأسه ليس إلا، لكنه تعلم أن هناك من الأشياء ما لا يستطيع القيام بها بالطريقة التي فكر وقام بها في السابق.
كان عليه أن يتعلم من جاره، محمد بن زايد، الذي كان ينبغي عليه نصحه بأنه من الأفضل قتل المعارضين من خلال وكلاء ثم إنكار ذلك، وأنه من الحكمة دوماً سؤال واشنطن أولاً قبل القيام بشيء، فبعد 8 سنوات من الحرب على اليمن أخذت معها حياة 370 ألف شخص وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، كانت مشكلة محمد بن سلمان الوحيدة هي مليارات الدولارات التي تكبدها، وليس 24 مليون يمني تسببت الحرب بإفقارهم!
دروس استراتيجية
لقد أدى التدهور المطرد نتيجة سياسة بن سلمان إلى تعلمه لعدد من الدروس الاستراتيجية أيضاً، فما هي؟
أول الدروس هي أنه لا يمكن الوثوق بالولايات المتحدة، ولا يمكن للمملكة الاعتماد على واشنطن من أجل حمايتها، فقد تعلم ذلك من خلال إيران عندما أرسلت عدداً من الطائرات بدون طيار في ديسمبر عام 2019، بهدف مهاجمة موقعين لإنتاج النفط تابعين لشركة أرامكو، مما أدى إلى خفض إنتاج السعودية إلى النصف في ذلك الشهر، وقد كان ذلك في عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الذي لم ترمش له عين وقتها، حتى أنه أخذ خطط الهجوم السرية معه وألقى بها في مرحاض في منتجع غولف مارالاغو في فلوريدا!
هناك سبب آخر لخيبة أمل محمد بن سلمان في واشنطن، بالأساس، كانت هناك حربان تجريان بالتوازي باليمن، الحملة السعودية ضد الحوثيين من جهة، والحرب الأمريكية ضد القاعدة من جهة ثانية، ولذلك كانت العلاقات العسكرية بين واشنطن والرياض تسير بشكل جيد، حتى انسحبت الولايات المتحدة بمجرد انتهائها من الحرب ضد القاعدة، وفقدت الاهتمام بحماية الحدود الجنوبية للسعودية من صواريخ الحوثيين!
في المقابل، السعوديون انضموا للحملة الأمريكية ضد إيران، ببساطة، لأن واشنطن طلبت منهم ذلك، ولكن محمد بن سلمان بات أقل ميلاً للعمل كوكيل للولايات المتحدة في المنطقة، ولذلك ارتأى مؤخراً، بدلاً من الانضمام لحلف الناتو العربي ضد إيران، الموافقة على تشكيل تحالف بحري مع إيران والإمارات وسلطنة عُمان، وتلك خطوة صغيرة نحو قبول منطق إيران الذي تحتاجه دول الخليج للدفاع عن نفسها.
هذه الخطوة وحدها كانت رسالة واضحة للجيش الأمريكي في الخليج، فقد ورد على لسان المتحدث باسم الأسطول الأمريكي الخامس الموجود في الخليج، تيم هوكينز، في حديثه لموقع Breaking Defense أن التحالف البحري الجديد “يفوق التصور والمنطق”، معتبراً أن “إيران هي السبب الأول في غياب الاستقرار الإقليمي، فكيف تريد تشكيل تحالف أمني بحري لحماية المياه التي تهددها؟! خاصة أنها احتجزت وهاجمت 15 سفينة تجارية ترفع علماً دولياً من قبل”.
تعد الصين الشريك التجاري الأكبر للسعودية، حيث تشتري 20% من صادرات السعودية النفطية، فيما تعد السعودية من بين الدول الثلاث الأولى في مشاريع البناء الصينية
أما الرئيس الأمريكي، جو بايدن، فقد أرسل لبن سلمان جرس إيقاظ من نوع مختلف، عندما فرض الوقوف على قدم وساق خلف أوكرانيا، وفرض أكبر مجموعة من العقوبات على أي دولة أجنبية طوال تاريخ الحرب الاقتصادية، لكن العقوبات على روسيا لم تكن مصدر قلق بن سلمان، بل تلك المفروضة على النخبة الحاكمة، فإذا تمكنت واشنطن من الاستيلاء على يخوت بوتين، ما الذي يمنعها من الاستيلاء على يخوت بن سلمان أيضاً؟!
لهذه الأسباب كلها، لا يمكن أن تعود العلاقة مع واشنطن لسابق عهدها، حتى لو عادت سلالة ترامب إلى السلطة!
تحول جيوسياسي كبير
ظهر محمد بن سلمان مؤخراً مصراً على بيع النفط السعودي لمن يريد، لا يحتاج الأمر إلا إلى التشاور مع حلفائه المنتجين للنفط ومراجعة بعض التحوطات، وهنا نأتي للنتيجة الثانية التي تسببت بها العقوبات المفروضة على روسيا، وهي الدافع الذي وفرته تلك العقوبات للصين والسعودية، على حد سواء، للتقليل من هيمنة الدولار على سوق النفط.
تعد الصين الشريك التجاري الأكبر للسعودية، حيث تشتري 20% من صادرات السعودية النفطية، فيما تعد السعودية من بين الدول الثلاث الأولى في مشاريع البناء الصينية، مما يدلل على أن هناك تحولاً جيوسياسياً ضخماً يحدث في العالم، ليس في صالح واشنطن بطبيعة الحال، كونه يتجه نحو شرق آسيا، فأكبر حليف للولايات المتحدة في الخليج بات يستثمر المليارات في الشركات الصينية، وقد كانت أولى هذه الصفقات مذكرة تفاهم بقيمة 5.6 مليار دولار بين وزارة الاستثمار السعودية وشركة Human Horizons Technology الصينية لصناعة السيارات الكهربائية.
من المرجح أن تتحول المعاملات النفطية بين البلدين كذلك بالين الصيني، الأمر الذي سيساهم بشكل كبير في إقناع دول أخرى بالتعامل بالعملة الصينية، يضاف إلى ذلك أن شركة أرامكو دخلت في شراكة للاستثمار في مصفاة نفط كبرى شمال شرق الصين.
يمكن التكهن بأن النظام المالي العالمي الذي ظل قائماً منذ الحرب العالمية الثانية، أصبح الآن على أعتاب تغيير جذري، الأمر الذي إن حدث، فلن يتفاجأ أحد ولا حتى واشنطن، ولكن كما قال أحد المسؤولين بسخرية “إذا حدث ذلك، فسوف يحتاج محمد بن سلمان إلى حراسه الشخصيين بالفعل”.
قتل خاشقجي
أصبحت كل دول الخليج تتلاعب بنفس الطريقة، أسوة بخطوات السعودية، خاصة بعد الطريقة التي استخدمت فيها واشنطن الدولار كسلاح ضد الدول التي لا سلطة لها فيها مثل إيران وسوريا وروسيا، كلها أمثلة مفيدة مائلة لأي دولة خليجية.
في الأيام الأولى من رئاسة بايدن، كان محمد بن سلمان متوتراً للغاية، فمنذ قتل خاشقجي، تعهد بايدن ووزير خارجيته مراراً بالتعامل مع ولي العهد باعتباره منبوذاً بسبب ذلك، فقاموا في البادية محاولة الترويج للتعامل مع الملك سلمان فقط، وكأنه بإمكانهم الفصل عن الحاكم الفعلي للمملكة!
لقد قام بايدن بنشر تقرير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية حول مقتل خاشقجي، لكنه أغمض عينيه بعد ذلك وفشل في إحالة ملف خاشقجي إلى تحقيق رسمي للأمم المتحدة، وبمجرد إدراك ذلك، تنفس السعوديون الصعداء، فملاحقة أمير سعودي في المحاكم الدولية يعني أن على واشنطن تغيير النظام في المملكة، ولم تكن لدى واشنطن بدائل ولا طاقة للقيام بذلك.
يتذكر بن سلمان جيداً أن رحلاته الجوية السرية للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كانت أولى الخطوات نحو تطبيع العالم العربي مع إسرائيل
أما التغيير في التفكير السعودي فكان عميقاً هذه المرة، لقد أدرك بن سلمان أن بايدن كان كيساً منتفخاً من الخارج فقط، على الأقل فيما يتعلق بقضية خاشقجي، حيث عادت النخبة المحيطة بمحمد بن سلمان إلى التنفس مرة أخرى، والشعور بالثقة والبحث عن فرص جديدة، وقد كان.
المكان والزمان المناسبين
لم يعد المستثمرون هم من يترأسون أبراج ترامب هذه الأيام، بل برج صندوق الاستثمارات العامة في الرياض، أو مكاتبها في نيويورك أو لندن أو هونغ كونغ، حيث يتلقى محمد بن سلمان تقارير نصف أسبوعية من محفظة شركات الصندوق، وبهذا تجد السعودية نفسها في المكان والزمان المناسبين!
لقد أدى هذا الإدراك إلى تغيير وجهة نظر محمد بن سلمان حول فائدة إبرام صفقة مع إسرائيل، فهو يتذكر جيداً أنه قدم نفسه لإسرائيل من خلال واشنطن أول مرة، وكانت رحلاته الجوية السرية للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كانت أولى الخطوات نحو تطبيع العالم العربي مع إسرائيل.
قيل أن بن سلمان هو من قال للقادة اليهود أن “الفلسطينيين أضاعوا فرصة تلو الأخرى لصنع السلام”، حيث نقل الصحفي الإسرائيلي باراك رافيد عن الأمير السعودي قوله عام 2018، “حان الوقت لأن يأخذ الفلسطينيون المقترحات وأن يأتوا للتفاوض أو يصمتوا و يتوقفوا عن الشكوى”!
أما اليوم، فالنغمة مختلفة كلياً، محمد بن سلمان يقول أن فلسطين “القضية المركزية بالنسبة للعرب”، ولكني أشك إن كان هذا نابعاً من أي تعاطف جديد مع الفلسطينيين، لكن ربما يسأل محمد بن سلمان نفسه “ماذا سأستفيد من كل ذلك؟”.
بالنسبة لبايدن ونتنياهو، ففوائد الصفقة واضحة، فنتنياهو يعتبر تحقيق السلام مع السعودية سوف يكون أكبر إنجازاته السياسية، أما بايدن، فإن التطبيع مع دولة كبيرة مثل السعودية سوف تكون صفقة السلام المميزة لإدارته.
على الجانب الآخر، السعودية تعتمد في شرعيتها على دورها كوصي على اثنين من أهم المقدسات الإسلامية، وبالتالي ليست زعيمة للعالم العربي السني فحسب، وإنما قائدة للعالم الإسلامي أيضاً، ولا يبدو أن هناك فوائد واضحة من التطبيع بالنسبة لها، حتى الآن على الأقل.
قائمة تسوق بن سلمان!
لقد تم تطبيق نموذج التطبيع من قبل الإمارات، ونتائجه بالنسبة للسعودية ليست مشجعة، فالإماراتيون قدموا عرضاً داعماً كبيراً احتفالاً بيوم “استقلال إسرائيل”، من خلال جذب الفنانين الإماراتيين للغناء بالعبرية في قلب أبو ظبي، وفي الوقت نفسه، ترفض إسرائيل منح واشنطن الضوء الأخضر لتزويد الإمارات بطائرات مقاتلة من طراز F35!
في الحقيقة، تظل إسرائيل حذرة متشددة في علاقاتها مع النخب العربية الهشة، فعلاقة كتلك بحاجة دائماً لضمانات، ولذلك تحرص إسرائيل على أن تحتفظ بالتفوق العسكري والتقني والفني، ولكن الواقع مختلف بالنسبة للشارع العربي، الذي ما زال يرفض التطبيع خاصة في الدول التي وقعت اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، مما يؤكد أن التطبيع ولحسن الحظ لم يتمكن من تغيير نفسية الغالبية في الشارع العربي.
لعل من أحدث الشواهد على ذلك، حادثة إطلاق النار التي قام بها أحد حدود الحرس المصريين مؤخراً وقتل فيها 3 جنود إسرائيليين، فهناك روايتان للحادثة، إحداها الرواية الرسمية المصرية، التي ادعت أن حرس الحدود كان يلاحق مهربي المخدرات وأن إطلاق النار كان “متبادلاً”، والثانية الرواية الإسرائيلية، التي قالت أن المصري استهدف الجنود عمداً.
خلاصة الأمر أن السعوديون ليسوا موضع إعجاب، لكنها الحاجة لهم ليس إلا!
ربما تكون هذه المرة الوحيدة التي أصدق فيها الرواية الإسرائيلية، لأنها تتحدث عن عمل فردي مقاوم، تماماً مثل المقاومة التي تحدث في الضفة والقدس، وبذلك أصبح الجندي المصري بطلاً قومياً، رغم جهود القاهرة الحثيثة للقمع الالكتروني.
وعليه، فإن سعر التطبيع بالنسبة لمحمد بن سلمان يرتفع كل أسبوع، فهو لديه قائمة تسوق، مكونة من مفاعل نووي ومقاتلات F-35s وغيرها، ولا ندري أيضاً، ربما يكون نفوذه قد تعاظم هذه المرة على واشنطن، خاصة بعد علاقته المزدهرة مع بكين، أما إذا ما وقع التطبيع مع إسرائيل، فلن يبقى له سوى القليل ليستخدمه في المساومة، ولذلك يحرص على الغموض الاستراتيجي، كتوجه يخدمه على المدى الطويل بشكل أفضل.
ومع ذلك، فإن الاهتمام الذي يحظى به بن سلمان اليوم لا يعني الاحترام أبداً، فإذا ما قامت ثورة مثل الربيع العربي، فإن محمد بن سلمان سوف يلقى نفس مصير أي حاكم عربي آخر ممن لقوا حتفهم، خلاصة الأمر، أن السعوديون ليسوا موضع إعجاب، لكنها الحاجة لهم ليس إلا!
ملاحظة: الآراء الواردة في هذا المقال تخص المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية لموقع Middle East Eye.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)