بقلم د. عدنان أبو عامر
ما زالت الاشتباكات المسلحة الضارية التي خاضها جيش الاحتلال مع المقاومة الفلسطينية في مخيم جنين شمال الضفة الغربية، تترك آثارها السلبية على الاسرائيليين، الذين صدموا من وقوع هذه الخسائر البشرية في صفوفهم، عقب اختراق العبوات الناسفة للدبابات المدرعة التي اقتحمت المخيم.
لا يخفي جيش الاحتلال أنه من الآن فصاعدا سيكون معنيّاً بإجراء تعديلات عملية من شأنها أن تجعل أي عملية عسكرية مستقبلية في جنين ونابلس أكثر تعقيدًا، لأن نتيجة العملية الأخيرة تطرح السؤال مرة أخرى: هل تفقد إسرائيل سيطرتها في شمال الضفة الغربية، بعد أن أصبح كل دخول للاحتلال لهذه المناطق يتطلب قتالًا في الطريق إلى الوجهة النهائية، وأثناء البقاء هناك، وفي طريق العودة أيضاً.
يبدي الاسرائيليون خشيتهم أن يكون المقاومون في الضفة الغربية في جنين يتلقون تدريبات مكثفة، بعد أن ظهر على أدائهم تحسنا ملحوظا، جعل مجرد الدخول الى المناطق الفلسطينية المحتلة مسألة أكثر خطورة وفتكاً بجنود الاحتلال، من خلال التخطيط المسبق للاستيلاء على محاور المخيم، إلى درجة تحويل الأحياء إلى مجمع عسكري للمقاومة، مما قد يتطلب من الجيش إجراء تعديلات عملياتية قد تجعل أي عملية من هذا القبيل محاطة بكثير من المخاطر الأمنية والعسكرية.
وطالما أن الاحتلال يتعامل في المدن والمخيمات الفلسطينية بالضفة الغربية، كما كان يتعامل سابقاً مع جنوب لبنان وقطاع غزة، فإن هذا يعني تفاقما لهذا الوضع الأمني، ولن يكون أمام الاحتلال من خيار سوى التفكير في عملية أكثر شمولاً، رغم أنه يدرك جيداً هذا الوضع، ولا يزال غير موافق على عملية كبيرة في شمال الضفة الغربية، لأن الافتراض السائد في جيش الاحتلال أنه لا يزال ممكناً التعامل مع التهديدات العسكرية من خلال عمليات الاعتقال والعمليات الميدانية.
لا تخفي المستويات العسكرية والسياسية الاسرائيلية الرفيعة في هذه المرحلة ضرورة التركيز على إيران وحزب الله، وعدم تشتيت الانتباه، رغم الدعوات الصادرة بشكل رئيسي من اليمين الاستيطاني لشن عملية واسعة النطاق في منطقة جنين، لكن الجيش الإسرائيلي يعرف جيدًا أن مثل هذه العملية العسكرية قد تتعقد بسرعة كبيرة، بالتأكيد في بيئة مزدحمة بالمدنيين الفلسطينيين، وفي مخيمات مكتظة باللاجئين.
في الوقت ذاته، ورغم ضعف السلطة الفلسطينية، فلا يزال الاحتلال يريد إبقاء القنوات مفتوحة معها، مع أنها لا تعمل على الإطلاق تقريبًا في جنين، لكن الأنشطة الأمنية الإسرائيلية لا تزال منسقة معها قدر الإمكان، وحتى لو لم يكن ذلك ضروريًا بالضرورة، فإن وجود قناة الاتصال هذه مهم في الجانب الواسع، خاصة مع احتدام الصراع على الخلافة في قيادة السلطة الفلسطينية تحسّباً لغياب محتمل لأبو مازن.
سبب آخر للتخوف الإسرائيلي من إمكانية شن عملية عسكرية في قلب الضفة الغربية هو الخشية من أن تؤدي مثل هذه العملية لسقوط العديد من الخسائر البشرية في صفوف قوات الاحتلال، مما سيضر بحكومة اليمين التي تعاني تصدّعات داخلية متلاحقة بسبب الانقلاب القضائي.
عامل جديد قد يضاف الى كوابح تنفيذ مثل هذه العملية العدوانية الاسرائيلية، وتتعلق بالاعتبار السياسي، وهو الضغط الدولي، فقد ألمحت عدد من الدول والعواصم أنها لا توافق على أي نشاط عدواني إسرائيلي بما يعرّض المدنيين للخطر، وفي هذا الوقت، من المشكوك فيه ما إذا كان أي مسئول إسرائيلي على المستوى السياسي يريد إطلاق عملية واسعة النطاق، بزعم أنه “ليس لدينا ما نكسبه من الحرب مع الفلسطينيين”، هكذا تقول المؤسسة الأمنية، وهذا صحيح في الوقت الحاضر، وأيضًا بالنسبة للفترة المقبلة.
على الصعيد الداخلي الاسرائيلي، فليس سرّا أن وزير الحرب يوآف غالانت هو صانع القرار المهيمن ويؤيده رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وقد ثبت ذلك في العدوان الأخير في قطاع غزة خلال شهر مايو، رغم أن شركاء الائتلاف اليميني قد يخلقون مجموعات ضغط في هذا الشأن، لكن نتنياهو أثبت حتى الآن أنه في المسائل الأمنية يستطيع إيجاد فصل كامل مع باقي حلفائه.
في الوقت ذاته، فقد أثارت أحداث مخيم جنين تساؤلات حول ما إذا كانت هذه حادثة لمرة واحدة لزرع متفجرات ضد قوات جيش الاحتلال، أم أنها تغيير جوهري في الاتجاه، لأن ذلك من شأنه التسبب في “لبننة” الضفة الغربية، ويعني أكثر زيادة عدد قتلاه إذا ما قرر التوغل أكثر في المناطق الفلسطينية، مما يجعل قوى المقاومة معنية أكثر من سواها بالاعتقاد أن الاحتمال الوحيد للانسحاب الإسرائيلي عن أراضيها المحتلة هو من خلال مضاعفة عدد قتلى الاحتلال، من الجنود والمستوطنين.
وإذا كانت هذه هي الاستراتيجية الفلسطينية للمقاومة، فإننا سنكون عرضة في قادم الأيام لرؤية المزيد من الجهود لزرع العبوات الناسفة في المستقبل على طرق الضفة الغربية، وقد يكون هناك تطور لمهاجمة مركبات المستوطنين، وبالتالي التسبب في وقوع عدد كبير من القتلى الإسرائيليين، وهنا سنكون أمام تحول خطير على الساحة الفلسطينية يعيد الاحتلال لما عاناه من تدهور أمني خلال انتفاضة الأقصى..