بقلم جو جيل
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في الغالب لا تتجه حركة التاريخ بخطوط مستقيمة، بل هي أقرب لموجات بعضها لطيف والآخر عنيف ويحدث تغيرات دراماتيكية تصل إلى القمة، لكن بعد كل موجة، هناك حتماً انهيار!
في السنوات الأخيرة، اجتاحت عدد من موجات الثورات مناطق مختلفة من العالم، حتى أنها هزت من النظام العالمي القائم منذ سنوات، وكما في الماضي، فإن الثورات والتمردات، التي تهدد بنية السلطة السياسية والاجتماعية القائمة، لابد وأن يتبعها رد فعل.
لقد شهد العقد الأخير 3 ثورات إقليمية، في كل من شمال أفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية بالإضافة إلى الغرب، وقد بلغ كل منها ذروته بين عامي 2018 و2022، وهذا ما سنركز عليه في هذا المقال.
أولاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد شهدت الجزائر والسودان والعراق ولبنان وإيران احتجاجات جماهيرية واسعة كانت سلمية في غالبها، حتى في ظل قمع الدولة، مما يؤكد على تعلم درس سياسي مهم من الثورات السابقة التي تطور بعضها إلى حركات تمرد مسلحة في عدد من البلدان، استطاع بعضها النجاح بشكل جزئي في البداية على الأقل، وتمت إزالة القيادات الفاسدة في بعض الحالات في الجزائر والعراق والسودان، بالإضافة إلى سجن بعض الوزراء والمسؤولين.
أما في إيران، فلم يبق أحد على قيد الحياة، على الرغم من تحقيق حركة “المرأة- الحياة- الحرية”، التي انطلقت في أواخر عام 2022، مكاسب محدودة متعلقة بتخفيف قواعد اللباس على المرأة، إلا أن التكلفة من حيث القتلى كانت عالية جداً، مما أدى إلى خفوت تلك الاحتجاجات بعد أن تمكنت الدولة العميقة من إعادة تثبيت نفسها وقمع المتظاهرين!
حركات صاعدة
لو نظرنا إلى أمريكا الجنوبية، فقد اندلعت احتجاجات شعبية في تشيلي عام 2019، وفي كولومبيا عام 2021، وفي البيرو عام 2022، وغيرها، كما وصل اليسار الليبرالي إلى السلطة بعد صراع دام 50 عاماً، شمل حرباً أهلية طويلة وقمعاً وانقلابات عسكرية، ولذلك لا يُستهان بإنجاز هذه الحركات النضالية، خاصة بالنظر إلى التدخل الأمريكي والغربي في القارة.
أما في الغرب، فقد شهدت الولايات المتحدة احتجاجات كبيرة عام 2020 بعد مقتل الأمريكي من أصل إفريقي، جورج فلويد، على يد الشرطة، أما فرنسا فقد شهدت احتجاجات حركة “السترات الصفراء” عام 2018، بالإضافة إلى حركة احتجاج ضد إصلاح نظام التقاعد الذي قام به إيمانويل ماكرون منذ بداية 2023، وهي ربما أهم حركة احتجاجية شهدتها فرنسا منذ عام 1968.
كما شهد الغرب حركات احتجاج سياسية كان أبرزها في بريطانيا بقيادة الزعيم في حزب العمال جيريمي كوربين، وفي الولايات المتحدة عند محاولتي بيرني ساندرز للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب الرئيس، لكن هُزمت الحركتين، ففي حالة كوربين، تمت إزاحته من حزب العمال بتدبير من خليفته، ولكن صدى التعبئة التي تركها كوربين حول الخدمات العامة في المملكة المتحدة لم يظهر بعد بالكامل.
الثورة المضادة
الآن دعونا ننظر إلى الطرف الآخر، ردة فعل المؤسسة الحاكمة، أو ما يُعرف بالثورة المضادة، ففي تعريفها التقليدي هي رد فعل على انتفاضة جماهيرية أو محاولة للاستيلاء على السلطة من قبل جماعات أو طبقات مهمشة اجتماعياً، بحيث تسعى القوة السياسية التي تواجه تهديداً لحكمها، إعادة تنظيم صفوفها والرد على تلك القوى المحتجة، وهو أمر دائماً ما يحصل حتى لو كان المحتجون يتبعون “قواعد اللعبة” من خلال صندوق انتخابي أو احتجاجات سلمية أو مسارب قانونية.
يمكننا من خلال ذلك فهم ازدراء لينين للاشتراكية البرلمانية البرجوازية، فقد كتب أنطونيو غرامشي عام 1930، أنه عندما تكون البرجوازية في خطر كبير، فهي تحاول حل “وضع تاريخي سياسي يتسم بتوازن القوى إذا كان متجهاً لكارثة”، وذلك من خلال “شخصية عظيمة تستطيع التحكم في الصراع”، قد يكون دونالد ترامب وبوريس جونسون أمثلة على ذلك في السنوات الأخيرة.
لو ذهبنا إلى السودان، فيمكننا القول أن الشخصية البونوباترية هي عمر البشير، فبعد سقوطه عام 2019، حصلت الكارثة، ونفذ الجيش انقلاباً على التيار المدني عام 2021، حتى قبل تقاسم غنائم السلطة، مما حول الأمر إلى مسار دموي على الأرض.
وفي تونس، فرض الرئيس سعيد حكماً استبدادياً على شكل انقلاب شعبوي فاقد للشرعية، كانت قوة سعيد الوحيدة هي فشل السياسيين الليبراليين الذين أطاحت بهم ثورة التوانسة عام 2011.
أمريكا اللاتينية والغرب
في القارة الأمريكية الجنوبية، تم حشد الثورة المضادة من تشيلي، حيث تم انتخاب زعيم طلابي يساري بعد موجة الاحتجاجات، وإذا ذهبنا شمالاً إلى البيرو وكولومبيا، فقد أسقطت الحركات الاحتجاجية غير نتائج الانتخابات غير المسبوقة عقوداً من الفكر النيوليبرالي.
لكن تمت الإطاحة بالرئيس الجديد للبيرو، بيدرو كاستيلي، قبل عام من خلال انقلاب قضائي، جاء بعد سلسلة من التخريب السياسي عليه من قبل الأغلبية البرلمانية اليمينية، فتم اعتقاله بتهمة “التمرد”، وتم قمع المؤيدين له من مجتمع الأنديز الفقير.
أما في كولومبيا، فبعد عام من انتخاب أول رئيس يساري للبلاد، ما زالت الدولة العميقة، بما في ذلك المحاربون القدامى، تعمل بخطوات منسقة ضد الحكومة الجديدة، أملاً في إسقاطها أيضاً.
في الغرب، تبدو فكرة الانقلابات أكثر غرابة، أو فلنقل كانت كذلك حتى وقت قريب، لكن أحداث الشغب في يناير 2021 ومؤامرة اليمينية الالمانية المتطرفة يمثلان نوعاً جديداً من الاستعداد لرفض النظام الدستوري.
تعد “معاداة السامية” هي حجر الزاوية في واحدة من أكثر الحملات ضراوة في الغرب!ليس هناك تزايد حقيقي في معاداة السامية، لكنها حجة مصطنعة لاستهداف المعارضين السياسيين، دون التوقف عن حقائق أو أدلة!
يشير الواقع اليوم إلى أن النخب السياسية والمالية الحاكمة في الولايات المتحدة تشعر بأمان، فيما الحركات اليسارية والشعبية تعاني الضعف والانقسام، كما أن هناك طابعاً معروفاً للثورة المضادة في الولايات المتحدة، حيث تقوم وكالة الاستخبارات الأمريكية ووزارة الخارجية بتنسيقها من الخارج، أما في الداخل فإن مكتب التحقيقات الفيدرالية يتولى الأمر، مع قوات الشرطة العسكرية والكونغرس.
مكارثية جديدة
الصورة في أوروبا مختلفة بعض الشيء عن الولايات المتحدة، فأوروبا تتصدر بلاء تهمة “معاداة السامية”، فحجم المعلومات المضللة والهستيريا التي يتم اتهام المعارضين بها، مثل المغني الشهير روجر ووترز، وصلت إلى مستوى غير مسبوق في العصر الحديث، فليس هناك تزايد حقيقي في معاداة السامية، لكنها حجة مصطنعة لاستهداف المعارضين السياسيين، دون التوقف عن حقائق أو أدلة!
تذكرنا حملة “معاداة السامية”، بعملية مطاردة الشيوعية التي قادها السيناتور الأمريكي، جوزيف مكارثي، في أواخر الأربعينيات، حيث تعد “معاداة السامية” هي حجر الزاوية في واحدة من أكثر الحملات ضراوة في الغرب!
من الأمثلة على استخدام “معاداة السامية” أيضاً ما يحدث داخل حزب العمال في المملكة المتحدة، فأي شخص يعارض زعيم الحزب كير ستارمر، يتعرض لاتهامات من هذا النوع من أجل إسقاطه، في النظام الحزبي الأكثر تعصباً في تاريخ المملكة المتحدة على الإطلاق، ولكن ستارمر محظوظ لأن الحكومة متواطئة في حملته لتصفية اليسار داخل حزبه مقابل أن يصبح رئيساً للوزراء في حكومة تم ترويضها لقطاع الأعمال بالدرجة الأولى، وإذا ما فاز في انتخابات 2024، فمن المتوقع أن يكون نهجه استبدادياً في التعامل مع المعارضة!
كلما زادت حملات القمع ضد المعارضين، كلما شعرنا أن الأنظمة الحاكمة تتشارك أمراً واحداً هو الخوف من فقدان السيطرة!
منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصدرت حكومة المملكة المتحدة مجموعة من القوانين الصارمة المناهضة للاحتجاج، بما في ذلك قانون النظام العام وقانون الشرطة والجريمة وقانون المحاكم، فقد قامت الشرطة على إثر هذه القوانين باعتقال نشطاء سلميين مناهضين للملكية يوم تتويج تشارلز، بالإضافة إلى قمع نشطاء مؤيدين لفلسطين ولقضايا البيئة والمناخ.
فرنسا، أيضاً، شهدت أشهراً من الاشتباكات العنيفة بين الشرطة والمتظاهرين على خلفية إصلاحات معاشات التقاعد، حتى أن الشرطة البريطانية اعتقلت ناشراً فرنسياً بحجة قوانين مكافحة الإرهاب، بسبب مشاركته في الاحتجاجات ومعتقداته السياسية، وفي نفس الوقت، ما زال مؤسس موقع ويكيليكس، جوليان اسانج، خلف القضبان في بريطانيا بانتظار تسليمه للولايات المتحدة.
نتحدث هنا عن فرنسا وبريطانيا وليس روسيا!
حتى في ألمانيا، حيث تم استبدال تحالف وسطي بقيادة أنجيلا ميركل بآخر بقيادة أولاف شولتز، وهو أحد الاشتراكيين الديمقراطيين، ارتفعت السياسات القمعية ضد النشطاء والمتظاهرين خاصة في قضايا المناخ والبيئة وفلسطين، مع تكرار مزاعم “معاداة السامية” كجزء من الحملة المستمرة.
يعيش العالم فترة مضطربة بين حروب وتضخم اقتصادي وانهيار مناخي، لذلك من الصعب معرفة المدة التي يمكن أن تستمر بها موجة الثورات المضادة هذه، أو متى يمكن أن تنتهي، فكلما زادت حملات القمع ضد المعارضين، كلما شعرنا أن الأنظمة الحاكمة تتشارك أمراً واحداً هو الخوف من فقدان السيطرة!
في الدول الإسكندنافية وإيطاليا ووسط أوروبا، باتت الأحزاب الشعبوية اليمينية تتقاسم السلطة بالفعل، لتكشف عن وجه جديد محترم للفاشية الجديدة في أوروبا، في الواقع، اصبحت هذه الحركة السياسية التي اختارها المحافطون في بريطانيا والجمهوريون في الولايات المتحدة، هي الملاذ الأخير لسطوة الدولة والشركات، في حال فشلت الليبرالية أو الوسطية في جلب ذلك الاستقرار!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)