بقلم أسامة مقدسي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
قبل أن تصبح قضية فلسطين بوصلة أخلاقية للعالم ككل، كانت نواة أخلاقية للهوية العربية الحديثة، حيث شكل الاستعمار الصهيوني الأوروبي المتأخر لفلسطين شكلاً من أشكال الظلم الذي وحد العرب من المغرب إلى المشرق متجاوزاً الانقسامات المناطقية والطبقية والطائفية والدينية.
بنفس الوقت، وعلى الوجه الآخر، فقد كشفت قضية فلسطين عن فجوة في العالم العربي بين الحكام المعتمدين على الغرب وشعوبهم التواقة إلى تقرير المصير والتضامن، واتسعت هذه الهوة بشكل كبير بعد الهجوم الإسرائيلي الحالي على غزة.
لقد أدى التقسيم للإمبراطورية العثمانية المهزومة عام 1920 إلى إنشاء دول عربية مستقلة اسمياً فقط، أو كما وصفها القادة البريطانيون بـ “الواجهة العربية” للتغطية على استمرار الاستعمار، أو كما وصفهم المؤرخ أرنولد توينبي باسم “الأتباع العرب” للاستعمار البريطاني، فقد تجنبت تلك الأنظمة العداء تجاه الصهيونية الاستعمارية في فلسطين.
بعد حرب 1973، كان هناك تحول في الموقف العربي، حيث انضمت دول عربية إلى واشنطن وقبلت بدور ثانوي ضمن بنية الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، وعليه جاءت المكافآت الغرب مغرية للغاية بالنسبة للطغاة العرب
أما شعبياً، فقد تبلورت المشاعر المعادية للصهيونية في جميع أنحاء العالمين العربي والإسلامي بعد انتفاضة البراق عام 1929 والثورة العربية عام 1936، وكلاهما في فلسطين.
لقد دفع الظلم الذي مارسته الصهيونية في فلسطين إلى قيام ممثلين من 6 دول عربية بالإعلان عن نداءات حماسية ضد التقسيم الغربي المقترح لفلسطين في الأمم المتحدة التي كان قد تم تشكيلها حديثا في عام 1947.
اعترضت مصر والسعودية واليمن ولبنان وسوريا والعراق بشدة على الظلم الواضح المتمثل في منح أقلية معظمها من المستوطنين والمستعمرين واللاجئين المولودين في الخارج أكثر من نصف فلسطين لإنشاء دولة يهودية على حساب السكان العرب الأصليين!
القتال من أجل فلسطين
رغم اعتمادهم على القوة البريطانية أو الأمريكية ومصالحهم الأسرية والجيوسياسية الخاصة، إلا أن الهاشميين المؤيدين للغرب في الأردن والعراق وغيرهم في السعودية وسوريا ومصر، شعروا بأنهم مضطرون إلى التعبئة في مايو 1948، وذلك في محاولة لمنع الاستعمار الصهيوني في فلسطين عن طريق إرسال مفارز عسكرية فعلية للقتال في فلسطين ومن أجلها.
ورغم تواطؤ العاهل الأردني الملك عبد الله سرًا مع الصهاينة لتقسيم فلسطين، إلا أن جيشه حارب الصهاينة لمنع سقوط مدينة القدس القديمة، ويرجع ذلك إلى إدراك العرب للتهديد الوجودي الذي يعنيه إنشاء دولة استعمارية استيطانية غربية حديثة وتوسعية وعرقية ودينية وسط منطقتهم.
بعد نكبة عام 1948، توقف المربي العربي، ساطي الحصري، عند تساؤل مهم مفاده كيف تم هزيمة عدة دول عربية، فكان جوابه أن السبب هو وجود عدة دول عربية، حيث تلخصت وجهة نظره بأن وجود دول عربية عدة هو انعكاس لسياسة فرق تسد الغربية، فغياب الوحدة السياسية العربية يؤدي حتماً إلى إضعاف القدرة العربية ليس فقط على مقاومة الصهيونية الاستعمارية، بل وأيضاً على التطلع إلى تقرير المصير والسيادة.
كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر من أهم الشخصيات التي تأثرت بنتائج حرب 1948، حيث تشكلت لديهم رؤية مناهضة للاستعمار، أسفرت عن قيادة عبد الناصر لثورة عام 1952 في مصر، وتحدي الإمبريالية الغربية من خلال بناء الجيش المصري وتأميم قناة السويس عام 1956، بالإضافة إلى دعم حركات التحرير الوطني في الجزائر وفلسطين والمساعدة في توطيد حركة عدم الانحياز.
كان عبد الناصر يمثل آنذاك اللحظة المناهضة للاستعمار في الخمسينيات، فقد جسد ما أسماه الفيلسوف فرانز فانون بـ ” مسارات الوعي الوطني” مما عزز الرغبة العربية الحقيقية في التحرر.
لقد أدرك ناصر التهديد الذي فرضته الصهيونية الاستعمارية على تقرير المصير العربي، وأدرك أهمية ومركزية قضية فلسطين بالنسبة للرغبة العربية الأوسع في الاستقلال والتنمية الهادفين، ولكن جاءت هزيمة عام 1967 والتي شكلت صدمة للعرب مع التهام الصهيونية للمزيد من الأراضي العربية، وبعدها رحل عبد الناصر عام 1970.
اجتثاث العرب من عروبتهم
استغلت الولايات المتحدة رحيل عبد الناصر، وعملت جاهدة على كبح جماح النزعة العربية المناهضة للاستعمار وبناء إسرائيل عسكرياً، كما عملت على عزل قضية فلسطين ومصير الفلسطينيين عن أي دعم منسق من جانب الدول العربية.
كانت الولايات المتحدة تدرك أن دعمها العلني لإسرائيل يشكل المحرك الأهم للمشاعر المناهضة لأمريكا في المنطقة، ولكن الولايات المتحدة لم تكن تكترث إلا من أجل النفط وليس الديمقراطية، ومن هذا المدخل، قدمت الولايات المتحدة للعرب ادعاء “الإنصاف”، في حين شجعت الأنظمة الملكية المناهضة للديمقراطية على محاربة الوعي المناهض للاستعمار المتمركز حول فلسطين.
دخول عصر التطبيع واتفاقيات أبراهام عام 2020، فقد أكد على ازدراء الحكومات العربية لشعوبها المكبوتة مقابل خدمات أمريكية مختلفة
يذكر أن مذكرة بحثية لوزارة الخارجية صادرة بعد هزيمة 1967، أكدت على أن الفشل العربي في مواكبة الديمقراطية الحديثة ناتج عن “عقلية إسلامية عتيقة”، وليس لأسباب جيوسياسية خارجية، كما جاء في المذكرة أن المطلوب هو “اجتثاث العرب عن عروبتهم” من حيث المبدأ.
تمحورت أهم إشارات المذكرة إلى أنه يتعين على العرب قبول الهيمنة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني ورفض أسطورة الوحدة العربية والخضوع لهندسة الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط الغني بالنفط.
كانت إحدى ركائز هذه الهيمنة تعتمد على الدول الاستبدادية الغنية بالنفط، مثل إيران والسعودية في عهد الشاه، أما العمود الآخر فكان يعتمد على إسرائيل، التي سُمح لها ببدء استعمارها للضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة وسيناء ومرتفعات الجولان بطبيعة الحال بعد مرور هزيمة 67.
تلا ذلك أن شهدت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973 قيام الولايات المتحدة بمساعدة الجيش الإسرائيلي بشكل علني لأول مرة، كما أنها كانت المرة الأخيرة التي شهد فيها العالم تحركًا منسقًا من جانب الدول العربية لمقاومة إسرائيل عسكريًا واقتصاديًا، فبينما كانت الجيوش المصرية والسورية تسعى إلى استعادة الأراضي المحتلة، فرضت الدول العربية المنتجة للنفط بقيادة السعودية حظراً نفطياً على الغرب المحب للصهيوني.
بعد حرب 1973، كان هناك تحول في الموقف العربي، حيث انضمت دول عربية إلى واشنطن وقبلت بدور ثانوي ضمن بنية الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، وعليه جاءت المكافآت الغرب مغرية للغاية بالنسبة للطغاة العرب.
وفي عام 1978، أصبحت مصر في عهد الرئيس أنور السادات أول دولة عربية تنفصل علناً عن الإجماع العربي حول فلسطين، وذلك بعد توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل، والتي قبلت فيها مصر بالشروط الإسرائيلية المهينة لنزع السلاح في سيناء.
نجحت السياسة الأميركية الرامية إلى إرغام العرب على قبول الهزيمة على المستوى السطحي، فهي مبنية على وهم مفاده أن الفلسطينيين سيقبلون مصيرهم كشعب مستعمر إلى الأبد وأن الشعوب العربية ستنسى ببساطة أن فلسطين هي محور أخلاقها ونظرتها للعالم.
لقد كانت كامب ديفيد بمثابة علامة على خضوع مصر الرسمي لسياسة الشرق الأوسط بالمنظور الأمريكي، ولهذا السبب يشيد الغرب الليبرالي بالسادات باعتباره صاحب رؤية، كما أنه دعم الحكومات الاستبدادية بقيادة حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي.
للأسف، فقد بات الجيش المصري المجهز بمعدات أمريكية لا يستخدمها إلا لقمع التطلعات الديمقراطية في مصر وليس لمحاربة إسرائيل!
الهيمنة الأمريكية
كان الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 سبباً في تكريس الإذعان العربي الرسمي الجديد للهيمنة الأميركية على المنطقة، فقد قامت إسرائيل بقصف عاصمة عربية لمدة 3 شهور متواصلة لأول مرة، كما أشرفت على أكبر مذبحة للمدنيين الفلسطينيين في تاريخهم الحديث قبل الحرب الحالية على غزة، وذلك في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين، وانتهت الحرب بتفاوض مع واشنطن لنفي منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس مقابل الحماية.
باختصار، قتلت إسرائيل 20 ألف مدني لبناني وفلسطيني في ذلك الصيف، فيما جلست الدول العربية التي تدور في فلك واشنطن، وعلى رأسها السعودية ومصر، عاجزة على الهامش، ثم جاء غزو العراق للكويت عام 1990، والذي كان سبباً في تفكك الوحدة العربية الرسمية حتى على الصعيد الظاهري.
واقع الأمر أنه كلما زاد الوجود العسكري الأميركي في الخليج، كلما التزمت دول الخليج الغنية بالنفط بالرؤية الأميركية لشرق أوسط جديد، مع وجود إسرائيل العدوانية في مركزها بقوة.
مع دخول مرحلة ما بعد الحرب الباردة في التسعينيات، استسلمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في المنفى ومن ثم الأردن لمطالب الولايات المتحدة وإسرائيل وظهر ما يعرف بـ “عملية السلام”، حيث أصبحت السلطة الفلسطينية الجديدة التي أنشأتها اتفاقيات أوسلو أداة مساعدة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين.
تلا ذلك قيام إسرائيل بإغراق الأراضي المحتلة بالمستوطنات، في انتهاك صارخ للقانون الدولي، تحولت تصريحات الدول العربية بعده إلى مجرد مناشدات غير فعالة، حتى عرضت الحكومات العربية في عام 2002 على إسرائيل السلام الكامل مقابل حل الدولتين على أساس حدود عام 1967، فرفضت إسرائيل هذا العرض.
لم تفعل الدول العربية الموالية للغرب في أغلبها بعد ذلك إلى الإذعان لسياسة الولايات المتحدة التي قامت على تجاهل قضية فلسطين، وقاموا بدلاً من ذلك بالتركيز على مصالح أسرهم الحاكمة!
تقبل الهزيمة
لقد أكد اعتراف الولايات المتحدة عام 2017، في عهد إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، بضم إسرائيل غير القانوني للقدس، على الازدراء الرسمي الأمريكي للمشاعر الشعبية العربية.
أما دخول عصر التطبيع واتفاقيات أبراهام عام 2020، فقد أكد على ازدراء الحكومات العربية لشعوبها المكبوتة مقابل خدمات أمريكية مختلفة، حيث كشفت تلك الاتفاقات، التي قامت فيها المغرب والإمارات العربية المتحدة والبحرين بتطبيع علاقاتها مع حكومة إسرائيلية، عن نواياها بعدم الاعتراف أبداً بحق تقرير المصير للفلسطينيين، الأمر الذي أبطل أي شعور بالحاجة إلى الشرعية الشعبية العربية لقبول الصهيونية الاستعمارية.
ومن هذا الباب، فقد نجحت السياسة الأميركية الرامية إلى إرغام العرب على قبول الهزيمة على المستوى السطحي، فهي مبنية على وهم مفاده أن الفلسطينيين سيقبلون مصيرهم كشعب مستعمر إلى الأبد وأن الشعوب العربية ستنسى ببساطة أن فلسطين هي محور أخلاقها ونظرتها للعالم، وأن الصهيونية الاستعمارية يمكن فرضها بأشكالها الأكثر عنصرية على الشعوب الأصلية في المشرق العربي، وأن القوة الأمريكية والإسرائيلية لا تقاوم.
هذا ما أقنعت به الولايات المتحدة الزعماء العرب المستبدين، ولكنها لم تقنع شعوب المنطقة، وفي الواقع أدت هيمنة الولايات المتحدة على العالم العربي الرسمي، أي أغلبية الدول العربية التي تنتمي إلى جامعة الدول العربية، إلى إنهاء المقاومة العسكرية العربية الرسمية لإسرائيل، مما أدى إلى تحويل الأنظار إلى المقاومة العربية من قبل أطراف غير حكومية، مثل حزب الله وحماس ومؤخراً الحوثيين في اليمن.
هذا التقبل هو تماماً ما يرضي إسرائيل والولايات المتحدة، ولكن المفارقة أن ذات التقبل والانهزام هو ما حول القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام العالمي بين الشعوب!
شكلت هذه المنظمات “محور المقاومة” الذي تدعمه إيران، والتي دفعتها اعتباراتها الجيوسياسية والأيديولوجية إلى دعم المقاومة العسكرية ضد إسرائيل بشكل فعال، فقد نجحت الأحزاب الإسلامية في شن حرب غير متكافئة ضد إسرائيل، مما كان سبباً في حصولها على قدر هائل من الدعم الشعبي.
تمكنت تلك التنظيمات من تحمل قدر أكبر بكثير من القصف الإسرائيلي مما تحملته أي دولة عربية على الإطلاق، وحتى الآن، بدا أنها أكثر قدرة من أي جيش عربي تقليدي، ففي حين استسلمت الجيوش العربية في مصر والأردن وسوريا لإسرائيل بعد 6 أيام عام 1967، قام حزب الله بطرد إسرائيل من لبنان عام 2000، حيث كانت المرة الأولى التي يتم فيها تحرير أي أرض عربية من خلال الكفاح المسلح.
بعد ذلك، عانى حزب الله من حرب إسرائيلية لمدة شهر عام 2006، ليخرج منتصراً ويدحض فكرة أن إسرائيل لا يمكن هزيمتها، كما تحملت حماس حتى الآن أكثر من 150 يومًا من القصف الإسرائيلي العشوائي، ومع ذلك، حتى كتابة هذه السطور، ما زالت حماس مستمرة في القتال.
قضية اهتمام عالمي
اليوم، ورغم بث مشاهد الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل على الهواء مباشرة في جميع أنحاء العالم، لم تقم أي دولة عربية بتنفيذ عقوبات دبلوماسية أو اقتصادية ضد إسرائيل، ناهيك عن إرسال قوات عسكرية للدفاع عن الشعب الفلسطيني كما فعل أسلافهم في عام 1948.
تتصرف هذه الدول العربية كما لو أنها لا تملك الموارد ولا النفوذ ولا القدرة على فعل أي شيء سوى التوسل إلى الأمريكيين، الذين يعتنقون الصهيونية الاستعمارية بقوة ويمولون الحرب على فلسطين، والأهم من ذلك هو أن هذه الدول باتت مقتنعة الآن بأن مصالحها تكمن بوجود إسرائيل!
لم تعد الدول العربية تنظر إلى الفلسطينيين باعتبارهم شعبًا شقيقًا يعاني من ظلم عميق بقدر ما ينظر إليهم على أنهم مشكلة عفا عليها الزمن تؤثر على الاستقرار الإقليمي وتعيق الرخاء الاقتصادي، ففي مؤتمر ميونيخ الأمني الذي انعقد في 17 فبراير، اتفق وزير الخارجية المصري سامح شكري مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني وانتقد حماس لأنها خارج الإجماع داعياً إلى “الاعتراف بإسرائيل”.
في الوقت الذي حمل فيه الالتماس الذي تقدمت به جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية لوقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني رمزية كبيرة، إلا أن الأمر الواضح أيضاً كان إحجام مصر أو السعودية مثلاً، عن دعم عريضة جنوب أفريقيا.
اقتصر الأمر على إصدار الجامعة العربية سلسلة متأخرة من التغريدات في 10 يناير، ذكرت فيها أنه من “الطبيعي” أن تدعم الجامعة العربية جنوب إفريقيا، ولكن الحقيقة أن هذا التحفظ العربي الرسمي يبعث برسالة واضحة إلى العالم وهي أن الأنظمة العربية الرسمية والمستبدة قد تقبلت الهزيمة بالفعل.
هذا التقبل هو تماماً ما يرضي إسرائيل والولايات المتحدة، ولكن المفارقة أن ذات التقبل والانهزام هو ما حول القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام العالمي بين الشعوب!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)