بقلم سمية غنوشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لم تعد دولة الاحتلال تخفي جرائمها، فهي تشن تشن حرب إبادة جماعية معلنة في غزة، تدمر فيها المستشفيات والمدارس والمساجد والمباني السكنية، وتخلف وراءها أكثر من 55 ألف شهيد، في ظل حصار خانق يخنق ما تبقى من الحياة في أرضٍ أنهكها العدوان.
وفي غزة أيضاً، يتدافع المدنيون المنهكون حفاة عبر الأنقاض، بحثاً عن فتات البقاء، ليُقابلوا بالرصاص.
يعود بعضهم بأكياس دقيق، وآخرون بجثث ذويهم الملطخة بالدماء، بعدما قُتلوا وهم يلهثون خلف شاحنة إغاثة.
ومع كل ذلك فإن غزة ليست سوى جبهة واحدة، ففي لبنان، تضرب دولة الاحتلال بلا رادع، تقصف المنازل، تغتال عبر الحدود، وتحتل القرى التي لم تغادرها قط.
أما الجولان السوري فهو لا يزال تحت الاحتلال فيما تتعمق الضربات إلى أطراف دمشق، وكأن الجغرافيا لم تعد تعني شيئًا، ولا القوانين كذلك، نعم دولة الاحتلال تقتل متى شاءت وأينما أرادت.
واليوم، وجّهت دولة الاحتلال بوصلتها نحو إيران، فبعد محادثات غير مباشرة في عمان بين طهران وواشنطن، شنت دولة الاحتلال هجوماً مباغتاً بلا مبرر.
طالت الاغتيالات في إيران قادة عسكريين وعلماء ومسؤولين مدنيين، وأعقبتها ضربات جوية استهدفت منشآت عسكرية وبنى تحتية مدنية، بما فيها محطات كهرباء ومطارات والحجة برنامج إيران النووي، الذي يخضع لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ازدواجية الغرب المذهلة
إنه النفاق الغربي في أوضح تجلياته، فها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد سارع إلى دعم دولة الاحتلال، محذراً من “خطر” برنامج إيران النووي، بينما كانت بلاده شريكاً سرياً في بناء منشأة ديمونة النووية لدولة الاحتلال في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ما أتاح لها امتلاك الترسانة النووية الوحيدة غير المعلنة في المنطقة، خارج أي رقابة أو تفتيش.
ويُعتقد أن دولة الاحتلال تمتلك بين 80 و90 رأساً نووياً، وقادرة على تنفيذ “ضربة ثانية” عبر غواصاتها وطائراتها.
ورغم رفضها التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، تُمنح دولة الاحتلال اليوم تفويضاً غير معلن لتدمير إيران، بذريعة منعها من امتلاك نفس السلاح.
وعلى كل الأحوال فإن الهدف لم يتغير وهو إخضاع المنطقة، وتفكيك قواها، ونهب ثرواتها لكن هذه المرة، يبدو أن المخطط يواجه مأزقًا.
غضب عربي يتراكم
في المشهد السياسي لدولة الاحتلال، يحكم اليمين المتطرف بلا مواربة، وزراء يهددون بالإبادة، جنود يوثقون أنفسهم وهم يهينون نساءً طُردن من بيوتهن، ويقفون ضاحكين فوق ركام البنايات التي قصفوها، وأطفال دُفنوا تحت الإسمنت، مدارس مسحت من الوجود، والمساجد صارت أهدافًا حربية.
وفي القدس، يُقتحم المسجد الأقصى باستمرار فيما تسير جماعات استيطانية وهي تهتف: “لتحترق قراكم”، إنه مشهد لم يعد يتوارى خلف دعاية “الدفاع عن النفس” بل أصبح إعلانًا صريحًا بالإبادة.
أما رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، فيقف أمام الكاميرات متحدثًا عن “العالم الحر”، فيما يواصل قصفه الشامل.
وفي العالم العربي، يتصاعد الغضب فالشعوب تشاهد مذهولة وموجوعة قادتها وهم يطبعون العلاقات مع دولة الاحتلال، في الوقت الذي تحرق فيه الأرض تحت أقدامهم، لكن هذه المرة تقف إيران صامدة.
إيران ليست غزة
إيران، الدولة ذات السيادة التي يتجاوز عدد سكانها 90 مليون نسمة، تمتد على أرضٍ مترامية تبلغ مساحتها 1.65 مليون كيلومتر مربع.
تضاريس إيران تصد الغزاة، وصواريخها تصل إلى عمق الأراضي المحتلة، ورغم سنوات من العقوبات والتخريب والاغتيالات إلا أنها لا تزال واقفة وقادرة على الرد.
وللمرة الأولى منذ عام 1948، تتعرض مدن في دولة الاحتلال لقصف مباشر ومنتظم، وقد باتت الحصانة المزعومة تتلاشى.
ولم يعد بإمكان الاحتلال ادعاء المظلومية، وهو يمتلك ترسانة نووية، ويحظى بالدعم المطلق من الغرب، ويداه ملوثتان بعقود من الاعتداءات.
ذاكرة الجراح الإيرانية
ما يجري اليوم في إيران ليس مجرد هجوم عسكري، إنه حساب تاريخي مع قرن من الإذلال والاستعمار.
فالإيرانيون لم ينسوا انقلاب عام 1953، حين أطاحت المخابرات الأميركية والبريطانية بحكومة محمد مصدق المنتخبة، وأعادت الشاه إلى الحكم، وفتحت الباب لـ25 عامًا من القمع على يد السافاك.
كما لم تُمحَ من الذاكرة الوطنية ثورة التبغ في تسعينيات القرن التاسع عشر، حين أسقط الإيرانيون امتيازًا بريطانياً عبر مقاطعة شعبية قادها رجال دين، في أول تحدٍ جماعي للهيمنة الغربية.
تلك الذاكرة لا تزال حاضرة، وتُغذي الصمود والمقاومة، وقد انتشر مؤخرًا فيديو لامرأة إيرانية، غير محجبة، تهتف بصوت يرتجف من الغضب: “نريد قنبلة نووية” ليس حبًا في الدمار، بل بحثًا عن الكرامة والندية.
تصدّع الخيال الاستعماري
ومع تصاعد الحرب، بدأت دول أخرى في المنطقة تدق ناقوس الخطر، فهذا وزير الدفاع الباكستاني حذر من أن بلاده قد تكون الهدف التالي، خاصة مع تعمق التحالف بين دولة الاحتلال والهند.
وهذه تركيا أيضاً تستشعر الخطر، فالرئيس رجب طيب أردوغان سبق أن حذر من أن دولة الاحتلال قد تستهدف بلاده قريباً، وهو ما رد عليه نتنياهو بتحذير مبطن مفاده: “لن تُبعث الدولة العثمانية مجددًا”.
وقد بات واضحاً أن ما يجري ليس حربًا على إيران وحدها، بل محاولة لإعادة فرض السيطرة الغربية على كامل المنطقة.
ومع أن الغرب لا يزال يتشبث بخطابه التقليدي عن “تحرير إيران”، وعن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، إلا أن الحقيقة أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، فما يجري هو مشروع استعماري جديد بواجهة قديمة.
والخلاصة أن المنطقة استيقظت، فبعد أن اعتقدت دولة الاحتلال أنها تستطيع تكرار سيناريوهات الماضي من اغتيال وقصف ثم إعلان “النصر”، جاءت الصواريخ اليوم لتسقط على تل أبيب وحيفا وعسقلان.
لقد وصلت الحرب إلى عمق الأراضي المحتلة وانتهت أوهام الحصانة، أما إيران فلا تزال واقفة مستعدة وقد أعدّت لهذا اليوم منذ عقود.
وها هي تل أبيب تشتعل ناراً لا يمكنها إطفاؤها، والغرب يقف خلفها كالعادة مسلحًا وداعمًا ومحرضًا.
لكن هذه المرة، ثمة فارق فالمنطقة لم تعد نائمة، لقد بدأ الحساب، والتاريخ يتحرك ولكن لعله لا يتحرك هذه المرة لصالح الغرب.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)